Author

رسالة من السويد (7) ما يجمع السعودية والسويد وما يفرقهما

|
أستاذ جامعي ـ السويد
تحدثنا عن الثقافة في رسالة الأسبوع الماضي وحاولنا تعريفها وقلنا إنها تشمل من ضمن ما تشمل مجموعة من البشر لهم صورة محددة ومشتركة لما يجب أن يكون العالم عليه في هذه الصورة وضمن إطارها تقع مكونات الثقافة. وقلما يحدث أن يكون المرء ملما بهذه الصورة وإطارها الشامل الذي يضم ثقافته فكيف إذا أراد استيعاب ثقافة غريبة عن ثقافته التي نشأ وترعرع عليها. ولهذا غالبا ما نركّز نظرنا على جزء صغير وبسيط من مكونات الصورة الثقافية الخاصة بنا وتلك المتعلقة بالآخرين ونبني عليها ليس فقط نظرتنا إلى ثقافتنا بل نظرة الآخرين إلى ثقافتهم أيضا. الاستيعاب الإنساني يكون ناقصا لا بل مضرا إن شخّص (بضم الشين) الجزء فقط وبني عليه الكل لفهم نظرتنا ونظرة الآخرين وتصورنا وتصورهم للعالم. الجزء يمكن استيعابه عند وضعه ضمن الإطار الشامل للثقافة، وبما أننا نخاطب العرب المسلمين في هذه الرسائل دعنا نستشهد بأمثلة قريبة جدا من روحهم وثقافتهم. ولنبدأ بالقرآن ، أقدس ما يملكون على هذه الأرض. المسلمون يغضبون ويثورون عند الإساءة إلى هذا الكتاب العزيز، ولهم كل الحق في ذلك لأنه لا يعلم غير المسلم أهمية هذا الكتاب إلا إذا تشبع بالثقافة العربية الإسلامية. بيد أن كثيرا من المسلمين بتصرفهم ولا سيما بتجزئتهم لرسالة القرآن وتفصيلها على مقاساتهم يقترفون الإثم ذاته الذي يقترفه غير المسلمين. الله سبحانه وتعالى حافظ للقرآن ككتاب سماوي ولن تهزه التصرفات المسيئة أيا كان منبعها. بيد أن الله منحنا العقل ومن خلاله هدانا، والعقل يقول إن نتفنا أي رسالة أو فكر لاختيار فقط ما يلائم مقاسنا وتركنا الباقي نكون بذلك قد سببنا ضررا فادحا لأنفسنا وللرسالة التي نؤمن بها. وهذا ما يفعله بعض المسلمين وغالبية المستشرقين والعلماء الغربيين وإعلامهم، عندما يستشهدون فقط بآيات من القرآن تقسو على اليهود كثيرا، ويتركون الآيات التي تنضح إنسانية ورحمة وشفقة وإحسانا وصدقة لا تضاهيها أي شرائع لحقوق الإنسان لأنها تؤوي البشرية جمعاء دون تمييز. وهل القرآن يقسو على اليهود فقط؟ أليست قسوته من الشدة بحيث تقشعر لها الأبدان عند حديثه عن أصحاب الأموال (الذهب والفضة) الذين لا ينفقونها بطريقة توائم تعليمات الرسالة (في سبيل الله)؟ ألم يوبخ وينتقد العرب على جاهليتهم ووأدهم للبنات؟ ألم يؤنب القرآن نبي الإسلام أيضا؟ وهناك الكثير من الأمثلة لا يسع الحيز المخصص لهذه الرسالة ذكرها أو الاستشهاد بها. هذا كان جوابي عندما أثار هذا الموضوع بالذات أحد المستشرقين في مؤتمر دولي عن الاستشراق في جامعة زيوريخ في سويسرا للبرهنة على أن القرآن يحث العرب المسلمين على إبادة اليهود. هذا المستشرق أخذ الجزء واستشهد به كي يوائم مقاسه الخبيث. أي رسالة إنسانية، سماوية أو غيرها، تفقد قيمتها أو حتى قدسيتها عندما يتم فصلها عن بعضها وتجزئتها وتقليمها كي توائم مقاسا محددا. في الثمانينيات من القرن الماضي أمضيت أشهرا عديدة أدرس وأحلل عينات من البيانات العسكرية التي كانت قيادات القوات المسلحة العراقية والإيرانية تصدرها إبان حرب الخليج بين عام 1980 إلى عام 1988. لقد كانت حربا مدمرة وعبثية بكل المقاييس، ولكن ما هالني كان الطريقة المسيئة التي يحاول كل طرف فيها «نتف» نصوص قرآنية خارج سياقها لتبرير القتل والقصف المتعمد للأبرياء والمساكن الآمنة، بينما الضحايا من الطرفين مسلمون. وفي كثير من الأحيان كان الطرفان يجتزئان من القرآن العبارات والكلمات نفسها لتبرير ما لا يمكن أن يبرره القرآن كرسالة شاملة. وانظر ما تفعله بعض الجماعات باسم هذا الكتاب العزيز، تحلل قتل وذبح الأطفال والنساء من المسلمين ما جعل مهمة مختصين من أمثالي لتوضيح الجانب الناصع من رسالة وثقافة الإسلام شاقة، رغم ذلك تستحق العناء لأننا نؤمن بأن الإسلام الحقيقي هو غير ذلك، الإسلام الحقيقي رحمة للعالمين. واجتزاء القرآن وآياته جعل غير العارفين بماهية الرسالة الإسلامية من بعض المسلمين وغيرهم، ينسبون أمورا للإسلام والإسلام منها براء، ومنها على سبيل المثال لا الحصر جرائم الشرف في السويد التي يدعي مقترفوها أن القرآن يسمح بها ما أعطى انطباعا خاطئا لدى غالبية الشعب السويدي أن الإسلام دين العنف. وفي الحقيقة لم ننجح في تخليص الإسلام من هذه الإساءة إلا بعد قيام الحكومة السويدية بطبع مئات الآلاف من النسخ من كتاب «لقاء مع الثقافة الإسلامية» والذي أشرنا إليه في رسالة سابقة. القتل من أجل الشرف العائلي أو القبلي يحدث كثيرا في الدول العربية والإسلامية، بعد أكثر من 1400 سنة على الرسالة التي أول ما أدانت كانت العصبية القبلية إبان العصر العربي قبل الإسلام الذي نطلق عليه اسم الجاهلية. هذه الأمور تحدث في الرسالات أو الأيديولوجيات الأخرى أيضا. ألم يشن الفاتيكان الحروب الصليبية باسم الدين المسيحي ورسالة عيسى بن مريم من ذلك براء؟ وحديثا عندما تنصر الهنود الحمر والسود في شمال أمريكا عسى ولعل أن يرفع البيض من المسيحيين الظلم الفاحش الواقع عليهم، أفتى رجال الدين المسيحي الذين فصلوا الإنجيل والتوراة على مقاساتهم ومقاسات سلاطينهم أن نصرانيتهم أدنى مرتبة من نصرانية الشخص ذي البشرة البيضاء وزادوا على ظلمهم لهم ظلما. وإذا قلنا إن شيئا من ذلك لا يجوز أن يحدث في الإسلام ليس لأننا نكتب لصحيفة عربية إسلامية. الإسلام اليوم أقوى وأعظم دين على وجه البسيطة وعليه تقع على أتباعه التزامات كبيرة في هذا العصر بالذات ما لا يقع على اتباع أديان أخرى. لماذا؟ لأن الإسلام له نحو مليار ونصف من الأتباع غالبيتهم الساحقة تلتزم بالرسالة كما جاء بها القرآن. قارن ذلك مع دين آخر، لنقل المسيحيون الكاثوليك الذين يوازون المسلمين عددا ولكنهم أقل تأثيرا والتزاما بكثير. ومما يميز الإسلام عن بقية الديانات هو مجاهرة أصحابه وأتباعه. المسلم يوقف سيارته على جانب الطريق ويؤدي صلاته وركعاته أمام المارة في أوقاتها المحددة، ويشكر الله يوميا على نعمة الإسلام ورسالته الشاملة التي تؤوي البشرية جمعاء بغض النظر عن لونها وإثنيتها وثقافتها ونظرتها للعالم، هذه الرسالة التي، في رأيي المتواضع، لا تجوز تجزئتها أو «نتفها» أو تفصيلها على مقاسات محددة لتبرير بعض الأفعال أو الأعمال التي منها الإسلام براء. وهل للثقافة دور في تكوين الإسلام؟ أقول نعم .. كيف؟ الجواب في رسالة الجمعة المقبلة.
إنشرها