FINANCIAL TIMES

السعر ليس صحيحاً دائماً والأسواق يمكن أن تكون على خطأ

السعر ليس صحيحاً دائماً والأسواق يمكن أن تكون على خطأ

أتيحت لي مؤخراً فرصة الاستمتاع بقراءة كتاب جوستين فوكس الجديد وعنوانه: «خرافة السوق العقلانية» The Myth of the Rational Markket. يقدم الكتاب سرداً تاريخياً جذاباً للبحث الذي أصبح يدعى «فرضية كفاءة الأسواق». والكتاب مشابه في أسلوبه لكتاب كلاسيكي ألفه الراحل بيتر بيرنشتاين. وكل الاقتباسات الواردة في هذا المقال مأخوذة منه. لقد كتِب الجزء الأكبر من الكتاب قبل اندلاع الأزمة المالية. ومع ذلك من الطبيعي أن يسأل المرء ما إذا كان ينبغي للتجارب التي مررنا بها في العام الماضي أن تغير وجهة نظرنا بخصوص فرضية كفاءة الأسواق. من المفيد أن نبدأ باستعراض سريع للتمويل العقلاني. بدأ التمويل الحديث في خمسينيات القرن الماضي، عندما بدأ كثير من عظماء الاقتصاديين في النصف الثاني من القرن العشرين حياتهم المهنية. كان أبناء الجيل السابق من الاقتصاديين من أمثال جون مينارد كينز أقل رسمية في كتاباتهم وأقل ارتباطاً بالعقلانية باعتبارها أداتهم الأساسية. وهذا ليس مصادفة. فعندما بدأ علم الاقتصاد يؤكد على النماذج الرياضية، وجد الاقتصاديون أن أبسط النماذج التي يمكن حلها هي النماذج التي تفترض أن كل شخص في الاقتصاد عقلاني. وهذا يشبه العمل بالفيزياء من دون الاهتمام بالجزئيات الفوضوية التي تنتج عن الخلافات. وحذا التمويل الحديث حذو هذا التوجه. ومن نقطة البدء التي انطلق منها المستثمرون العقلانيون جاءت فكرة فرضية كفاءة الأسواق، وهي نظرية كان أول من تناولها بالشرح والتوضيح زميلي ورفيقي في لعبة الجولف، جين فاما. تشتمل فرضية كفاءة الأسواق على عنصرين أدعوهما «السعر الصحيح» و»الغداء غير المجاني». يقول مبدأ السعر الصحيح إن أسعار الموجودات ـ وهنا استخدم كلمات فاما ـ تعكس بصورة كاملة المعلومات المتوافرة، وعليه فإنها «تعطي إشارات صحيحة عن توزيع الموارد». أما مبدأ الغداء غير المجاني فيرى أن من المستحيل توقع أسعار السوق، ولذلك يصعب على أي مستثمر أن يهزم السوق بعد أن يأخذ الخطر بعين الاعتبار. على مدى سنوات عديدة كانت فرضية كفاءة الأسواق «تعتبر حقيقة من حقائق الحياة»، كما يقول اقتصاديون من أمثال مايكل جنسين، الأستاذ في جامعة هارفارد، لكن كان من الصعب دائماً تقييم الدليل على أن السعر صحيح. واعتقد بعض الاقتصاديين في حقيقة أن من غير الممكن توقع الأسعار، كي يستنتجوا أن الأسعار في الحقيقة صحيحة. لكن في 1984 اعتبر الاقتصادي روبرت شيلر، وكان محقاً وشجاعاً في هذا، أن ذلك «أحد أكبر الأخطاء في تاريخ الفكر الاقتصادي». أما سبب الخطأ فهو أن الأسعار يمكن أن تكون عصية على التوقع، ومع ذلك تكون خاطئة: الفرق بين التذبذبات العشوائية لأسعار الموجدات الصحيحة وخطى السير غير القابلة للتوقع للسكران أمر يصعب إدراكه. ومما يجعل اختبارات عنصر فرضية كفاءة الأسواق صعبة ما يدعوه فاما «مشكلة الفرضية المشتركة». وبتعبير بسيط، من الصعب رفض الادعاء القائل إن الأسعار صحيحة ما لم تكن لديك نظرية عن الكيفية التي يفترض أن تتصرف بها الأسعار. لكن من الممكن تجنب مشكلة الفرضية المشتركة في بضع حالات خاصة. مثلا، لاحظ مراقبو أسواق الأسهم الأوائل من أمثال بنجامين جراهام في ثلاثينيات القرن الماضي، أن الحقيقة الغريبة المتمثلة في أن أسعار الصناديق المشتركة والمغلقة (التي يتم تداولها في بورصات الأسهم بدلاً من تحويلها إلى نقد) كثيراً ما تختلف عن قيمة الأسهم التي تملكها. وهذا يخالف القاعدة الأساسية التي يقوم عليها التمويل ـ قانون السعر الواحد ـ ولا يعتمد على أي من نماذج التسعير. ولوحظت مخالفات أخرى لهذا القانون أثناء فقاعة التكنولوجيا. فعندما أقدمت شركة 3com للتكنولوجيا على حل شركة Palm العائدة لها، تم بيع 5 في المائة فقط من أسهم Palm، وذهبت بقية الأسهم إلى المساهمين في شركة 3com . وحصل كل من حملة الأسهم على 1.5 سهم من أسهم Palm. وليس صعباً على خبير اقتصادي أن يرى أنه في عالم عقلاني ينبغي أن يكون سعر سهم شركة 3com أكبر بمرة ونصف من سعر سهم شركة Palm، لكن هذا الجزء البسيط من الحساب تمت مخالفته لعدة أشهر. لقد وضعت سوق الأسهم قيمة سلبية على أسهم شركة 3com، ناقصاً اهتمامها بشركة Palm. مقارنة بكون عنصر السعر صحيحا، سار جانب الغداء غير المجاني من فرضية كفاءة الأسواق بصورة أفضل. رسالة الدكتوراة الخاصة بجنسين، والتي نشرت عام 1963، حددت المعيار الصحيح عندما وجد أن أداء مديري الصناديق المشتركة، كمجموعة، لا يستطيع أن يتفوق على أداء السوق. ونشرت عشرات الدراسات منذ ذلك الوقت، لكنها خلصت إلى النتيجة الأساسية نفسها. ورغم وجود بعض الحالات الشاذة، من الصعب أن يتم التغلب على السوق. وهذا لا يمنع الناس من المحاولة. فعلى مدى سنوات كان الناس يتوقعون أن تنخفض الرسوم التي تدفع لمديري الأموال، لأن المشترين تحولوا إلى صناديق المؤشرات، أو إلى استراتيجيات سلبية أرخص، لكن بدلا من ذلك، تم توجيه الموجودات إلى صناديق التحوط التي تتقاضى رسوماً عالية جداً. والآن بعد مضي عام على حدوث الأزمة، أين أصبح المدافعون عن فرضية كفاءة الأسواق؟ أولاً هناك بعض الأخبار الجيدة. فإذا كان هناك من شيء، فإن احترامنا لعنصر الغداء غير المجاني ينبغي أن يزيد. ويتعلق السبب في ذلك بمشكلة الفرضية المشتركة. ذلك أن كثيراً من الاستراتيجيات الاستثمارية التي بدا أنها تهزم السوق لم تكن تفعل ذلك بعد أن تم أخذ المقياس الحقيقي للخطر بعين الاعتبار. وحتى ألان جرينسبان، الرئيس السابق للاحتياطي الفيدرالي، اعترف بأن المستثمرين تم خداعهم فيما يتعلق بمخاطر الأوراق المالية المدعمة بالرهنيات. والخبر السيئ بالنسبة لعشاق فرضية كفاءة الأسواق هو أن عنصر صحة السعر يواجه متاعب أكثر من أي وقت مضى. ففي وقت من الأوقات عرّف فيشر بلاك (من شركة بلاك شولز) السوق بأنها ذات كفاءة إذا كانت أسعارها «ضمن عامل من عاملين للقيمة». وكان يرى أنه بهذا التعريف الفضفاض نوعا ما، فإن «جميع الأسواق تقريباً تعتبر ذات كفاءة طيلة الوقت تقريباً». ولو أن بلاك الذي توفي عام 1996، عاش ليرى فقاعة التكنولوجيا وفقاعات الإسكان والرهن العقاري، لربما قام بتعديل مقياسه إلى عامل من ثلاثة. وبطبيعة الحال لا يستطيع أي شخص أن يثبت أن أياً من هذه الأسواق كانت فقاعات. لكن أسعار العقار في أماكن مثل فونيكس ولاس فيجاس بدت وكأنها فقاعات في حينه. وهذا لا يعني أنه كان بالإمكان جني المال من هذا التبصر. وما زالت وجبات الغداء غير مجانية. إن بيع أسهم شركات الإنترنت أو عقارات لاس فيجاس على المكشوف قبل وصول السوق إلى ذروتها بعامين كان وصفة جيدة للإفلاس. ومع ذلك لم يتمكن أي شخص من إيجاد طريقة لتوقع نهاية الفقاعة. ما الدروس التي ينبغي أن نستخلصها من هذا؟ هناك درسان فيما يتعلق بعنصر الغداء غير المجاني. الأول، أن كثيرا من الاستثمارات تنطوي على مخاطر أكثر ترابطاً مما تبدو. والآخر، أن العوائد العالية المبنية على المديونية العالية ربما تكون سراباً. ويعتقد المرء أن المستثمرين العقلانيين تعلموا هذا الدرس من انهيار لونج تيرم كابيتال مانجمنت، حين كانت كلتا المشكلتين واضحة، غير أن من الصعب مقاومة إغراء ما يبدو ظاهرياً أنه عوائد عالية. وفيما يتعلق بصحة الأسعار، فإذا وضعنا في اعتبارنا الفقاعة السابقة في قطاع العقارات اليابانية، يكون لدينا الآن ثلاثة تشوهات هائلة في الأسعار في الذاكرة الحديثة. وهذه التشوهات أدت إلى سوء توزيع موارد تقدر بتريليونات الدولارات، وفي الفقاعة الأخيرة أدت إلى انهيار الائتمان العالمي. ولو أمكن الاعتماد على صحة أسعار الموجودات دائماً، لما حدثت هذه الفقاعات. لكنها وقعت، فما الذي ينبغي أن نفعله؟ ما زالت أسواق المال رغم عدم كمالها أفضل طريقة لتوزيع رأس المال. وحتى في هذه الحال، فإن معرفتنا بأن الأسعار يمكن أن تكون على خطأ تدل على أن باستطاعة الحكومات أن تتبنى نشاطاً تلقائياً لإشاعة الاستقرار، مثل ربط الدفعة المقدمة الخاصة بالرهنيات بمقياس لتفاهة العقار، أو التأكد من تحديد متطلبات الاحتياطي البنكي بصورة ديناميكية تبعاً لأحوال السوق. ذلك أن سعر السوق ليس صحيحاً دائماً. الكاتب أستاذ للاقتصاد وعلم السلوك في مدرسة بوث للأعمال في جامعة شيكاغو وأحد مؤلفي كتاب Nudge.
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من FINANCIAL TIMES