Author

خروج العمال ومشكلة التقاعد

|
عضو اللجنة المالية والاقتصادية ـ مجلس الشورى

ظهرت فكرة التقاعد مع المستشار الألماني بسمارك في نهاية القرن الـ19، لقد بنيت الفكرة حول سؤال جوهري، هل على الناس البقاء في العمل حتى الممات؟ ذلك أن الإنسانية في ذلك العهد لم تكن تعرف التقاعد الذي نعرفه اليوم، فالجميع كان يعمل حتى تنهكه الحياة تماما أو يموت، فهل علينا أن نستمر بالعمل هكذا كي نحصل على لقمة العيش؟ لقد وجد بسمارك الإجابة سهلة، فكثير ممن كانوا يعجزون عن العمل بسبب كبر سنهم يتولاهم أبناؤهم الذين يعملون حينها ويحصلون على الدخل، لقد بدت إجابة السؤال سهلة، فيجب علينا ألا نعمل حتى الموت، بل يكفي أن نعمل إلى سن معينة ثم يتولى الآخرون الصرف علينا، وبمعنى أكثر وضوحا، على كل عامل أن يكفل شخصا أو أكثر ممن أصبحوا كبارا ولا يعملون، وفي المقابل يتخلى الكبار عن فرص العمل التي لم تزل متاحة لهم للشباب الجدد، لكن كيف يمكن أن يحدث ذلك؟ كيف اقتنع الناس بهذا؟ إنها عملية بسيطة لكنها رائعة، تم إقناع العاملين باستقطاع جزء من دخلهم لوضعه في صندوق "بزعمهم أنه للمدخرات"، ويقوم الصندوق بدفع تلك المبالغ للمتقاعدين عن العمل، ظن كثير من الناس ولا يزالون يعتقدون أنهم يدخرون أموالهم، لكن الحقيقة أنها ليست ادخارات، بل تعاونا وعقدا اجتماعيا، فما تدفعه اليوم لضمان حياة كريمة لمتقاعد فإن المجتمع متعهد بالدفع لك إذا حل زمن تقاعدك، فظاهر العملية أننا ندخر ليوم تقاعدنا، وحقيقتها أننا نصرف على متقاعدين وننتظر من سيقوم بالصرف علينا إذا تقاعدنا. تبدو هذه الحقيقة صادمة لنا، خاصة أولئك الذين يظنون أنهم يستردون حقوقهم وأموالهم (مدخراتهم) التي دفعوها قبل التقاعد. لكن لا أحد يربط بين ما دفعه أيام العمل وما سيستحقه بعد ذلك، المسألة في جوهرها هي تأمين تعاوني فقط.
هذه المقدمة مهمة لفهم تأثير مشكلة البطالة وهجرة العمال في التقاعد، فالفكرة كانت رائعة في عالم القرن الـ19 حتى بدايات القرن الـ20، كان التقاعد عند سن الـ60، لكن متوسط الأعمار كان أقل من ذلك بكثير، كان عند 40 عاما أو أعلى قليلا، وكان من يصل إلى سن التقاعد قليلا مقارنة بعدد وحجم الذين يعملون، ولهذا عد الناس التقاعد غنيمة مستحقة للفوز في معركة البقاء حيا، لكن مع تقدم الطب في مكافحة الأمراض الفتاكة مثل الكوليرا، والملاريا، وشلل الأطفال وغيرها، تزايدت فرص الحياة للمواليد خصوصا، وتزايدت أعداد السكان حتى وصلنا اليوم إلى مشكلة أن الواصلين إلى سن التقاعد 60، قد أصبحوا كثيرين جدا، أكثر من الداخلين للعمل، أي انقلبت المعادلة، بينما كان هناك قريب من عشرة عمال يقومون بالصرف على متقاعد واحد، تناقصت هذه النسبة، حتى وصلت إلى عاملين مقابل متقاعد واحد، أو العكس في بعض القطاعات، حيث يقوم عامل بالصرف على متقاعدين. لقد حاولت صناديق التقاعد حل المشكلة من خلال استثمار المبالغ المستقطعة، لكن الاستثمارات العالمية مهما بدت مميزة فإنها لن تدر أكثر من 10 في المائة، بينما هي تحجز مليارات، فالعوائد التي في حدود 5 في المائة اليوم مع ما يدفعه العمال بالكاد تفي بمستحقات التقاعد الحالية، وإذا استمرت الحال بهذا الشكل فإن تعهد المجتمع وعقده بشأن ضمانات دفع التقاعد في المستقبل سيتضاءل.
إذا نظرنا لهذه المشكلة من جانب كثرة المتقاعدين، فإن النظر إليها من جانب كثرة العاطلين يجعلنا نشفق على من يعملون اليوم، فكثير من المشتغلين اليوم يقومون بالصرف على جانبين في الوقت نفسه، ضمان الدفعات للمتقاعدين وضمان حياة كريمة للعاطلين الذين معهم، وهكذا تتفاقم الضغوط الاجتماعية، كلما زاد عدد الطرفين، وإذا أدخلنا في المعادلة خروج العمال الأجانب المسجلين في التأمينات، مع عدم إحلال وظائفهم بغيرهم سواء من العاطلين أو العمال الأجانب الآخرين فإن مشكلة التقاعد والتأمينات سيصعب حلها وسيكون مستقبل تقاعدنا في خطر، حتى العاطلين من أبنائنا فيما لو تقاعدنا قبل دخولهم العمل. ولا يمكن التعويل على قدرة صناديق التقاعد على تنمية الاستثمارات لتعويض الفاقد في العمال في هذا الزمن الذي يواجه فيه العالم أجمع تحديات تراجع النمو العالمي والعوائد الضعيفة.
الحل السهل والمباشر، لهذه المعضلة هو زيادة أعداد العمال المسجلين في التقاعد والتأمينات بشكل استثنائي، والضغط بقوة أكبر لدخول العمال العاطلين إلى سوق العمل المنظمة ودعم زيادة الإنتاج وتشغيل الأصول المعطلة في العقارات بشتى الصور، وبذل الجهود من أجل أن يقوم جميع العمال حتى أولئك غير النظاميين بالتسجيل في التأمين، ذلك أنهم يسرقون فرص العمل المتاحة من العمال النظاميين، ولا يدفعون مقابل تلك الفرص من العمل، وهذا سهل، إذا كان الدفع مقابل فرصة العمل وليس مقابل العمل نفسه. ويجب أن يعي الذين يعملون الآن مشكلة مرحلة التقاعد بشكل جيد، فما كان متاحا لأبي قد لا يكون متاحا لي، ولهذا يجب أن يقوم المشتغلون الآن بالاشتراك في برامج ادخار خاصة ويجب أن تقدم المصارف مثل هذه البرامج.

إنشرها