أخبار

آفاق الخلافة الإيرانية في أحلك أيامها

آفاق الخلافة الإيرانية في أحلك أيامها

بعد مقتل قاسم سليماني، انصب التركيز بشكل كبير على العمليات الخارجية التي ينفذها "فيلق القدس" التابع لـ"الحرس الثوري" الإيراني، غير أن الفيلق لعب دورا بارزا في الداخل أيضا، لكن مستقبله لم يعد واضحا حاليا. وعلى وجه الخصوص، كان سليماني نفسه في موقع جيد يخوله أن يكون شخصية جامعة توفر الاستقرار، ما إن تواجه إيران التحدي المتمثل في تعيين خلف لعلي خامنئي المرشد الأعلى.
وبحسب ما يرصده تقرير مهدي خلجي باحث "ليبيتزكي فاميلي" في معهد واشنطن، فإنه في نظر المرشد الأعلى، كان سليماني مثالا يحتذى به حول الطريقة التي ينبغي لقائد عسكري التصرف بها مهنيا وسياسيا؛ فخامنئي لم يكن يثق بأي قائد بارز آخر، وهذه حقيقة كانت واضحة في المعاملة التفضيلية التي كانت تمنح لسليماني في كثير من الأحيان.
على سبيل المثال، عندما تسلم خامنئي السلطة في عام 1989 اعتمد سياسة جديدة تقوم على تحديد مدة الخدمة الفعلية في المراكز العسكرية والسياسية، بما في ذلك المنصب الأعلى في "الحرس الثوري" الإيراني الذي تم تحديده بعشرة أعوام، ولم يكن خامنئي يعد خلفا طبيعيا للخميني، وافتقر إلى المؤهلات الدينية والجاذبية التي كان يتمتع بها القائد المؤسس، لذا كانت إعادة تشكيل التسلسل الهرمي العسكري بحذر بين الحين والآخر وسيلة بديلة لتوطيد سلطته وترسيخها، وحتى اليوم، في وقت يتمتع فيه بصلاحية شبه مطلقة، يسهم تناوب المراكز بين العناصر من ذوي الرتب العليا والمتوسطة في منع القادة من تشكيل دوائر سلطة وتحالفات خاصة بهم، غير أن سليماني شكل حالة استثنائية لهذه القيود المفروضة على مدة الولاية، ويعزى ذلك جزئيا إلى أنه كان ينحدر من مجموعة صغيرة من قادة "الحرس الثوري"، الذين كانوا مقربين من خامنئي أكثر من خصومه خلال المرحلة الانتقالية "بعد وفاة" آية الله الخميني. وفي أعقاب تعيين سليماني كقائد لـ"فيلق القدس" في عام 1997، بقي في هذا المنصب إلى حين مقتله بعد أكثر من 20 عاما.
ولم يكتسب سليماني مكانته المميزة هذه فقط بسبب ولائه لخامنئي منذ البداية وإنجازاته العسكرية اللاحقة؛ فبخلاف الأغلبية الساحقة من ضباط "الحرس الثوري" الإيراني، تجنب أيضا الانخراط في الأنشطة الاقتصادية والسياسية، وبدلا من ذلك عاش حياة متدينة بحتة، وبفضل هذه السمات كان محببا إلى خامنئي الذي غالبا ما أشار إلى الجنرال و"فيلق القدس" الذي يرأسه على أنهما دليل على أن استراتيجية "المقاومة" كانت فعالة أكثر من المقاربة الدبلوماسية التي يفضلها الرؤساء الإيرانيون. وتميز سليماني بانتهاج هذه الاستراتيجية من دون الإدلاء بتصريحات علنية سواء داعمة للسياسات المتشددة أو مناهضة لمسؤولين منشقين، حتى خلال الدورات الانتخابية الساخنة. وتعذر على مراكز القوة النافذة التأثير فيه، فكان يتلقى الأوامر مباشرة من المرشد الأعلى وكان مسؤولا أمامه فقط، لذا لم يكن مهتما بما أراده رؤساء البلاد أو المسؤولون الآخرون، فالشخص الوحيد الذي كرر ولاءه المطلق له بفخر وبشكل متكرر هو خامنئي. وفي المقابل، غالبا ما وصف المرشد الأعلى شخصية سليماني وخدمته بصفات لم تستخدم لوصف أي قائد آخر.
وتجسدت هذه المحسوبية المتبادلة أيضا في الطريقة التي توليا بها إدارة السياسة الإقليمية، ففي أوائل 2019، على سبيل المثال، رافق أفراد من "فيلق القدس" الرئيس السوري بشار الأسد من دمشق إلى مكتب خامنئي في طهران دون علم مسبق من الحكومة، ورد محمد جواد ظريف وزير الخارجية بغضب على استبعاده من الاجتماع وعرض استقالته، لكنها رفضت، وحتى إن الرئيس حسن روحاني نفسه استبعد من أجزاء من الاجتماع، في المقابل، جلس سليماني ورفاقه إلى جانب خامنئي طيلة فترة المحادثات، حيث أشاد به المرشد الأعلى والرئيس السوري وأغدقا عليه المدح.
ويعد لقب "البطل القومي" الذي غالبا ما وصف به لقبا نادرا في اللغة الفارسية، لا يعطى إلا لشخصيات في الملاحم وعلم الأساطير الفارسي، وليس لمسؤولين عسكريين معاصرين. ومن هذا المنطلق أصبح سليماني مقدسا من الناحية الأيديولوجية بقدر خامنئي نفسه تقريبا، ولم يكن مسموحا بانتقاد سجله أو دوره علنيا، كما مالت نخبة النظام إلى التحدث عنه باحترام، وحتى بمحبة، بغض النظر عن تبعاتها الفصائلية؛ ففي نظرهم، كان يتمتع بالمقومات الضرورية لتسهيل عملية صنع القرار والتوصل إلى تفاهم وإجماع في وقت الأزمات، وهو شخصية لا مثيل لها، يتمتع بسلطة وحكمة كان سيتم قبولهما دون أدنى شك من قبل أقرانه العسكريين، والنخبة السياسية وجزء كبير من الشعب. وتم تعزيز هذه السمعة في الأعوام الأخيرة كلما تم تكليف "فيلق القدس" بالاطلاع بدور أكبر على الساحة المحلية. على سبيل المثال، بعد عجز الحكومة عن التعامل بفاعلية مع أزمة الفيضانات التي أصابت البلاد العام الماضي، تدخلت قوات سليماني لتوفير الإغاثة، ونظرا إلى وصفه هذه القوة بأنها هيئة وطنية مكلفة بعديد من المهام العسكرية وغير العسكرية، سيكون من المثير للاهتمام رؤية إذا ما كانت القيادة الجديدة تشعر مضطرة بإعادة توضيع التنظيم، وكيف.
ويعد محمد حسي زاده حجازي، النائب الجديد لقائد "فيلق القدس" شخصية تجسد هذه المعضلة؛ فقبل انضمامه إلى "فيلق القدس" كان له دور مهم في تحويل ميليشيا "الباسيج" إلى قوة قمعية أقدمت بوحشية على قمع احتجاجات "الحركة الخضراء" في عام 2009، ورغم توليه أدوارا خارجية منذ ذلك الحين، إلا أن خلفيته الإجمالية تتركز بشكل كبير على الأمن الداخلي. يذكر أن "فيلق القدس" بقي عموما خارج مساعي النظام الرامية إلى قمع الاضطرابات التي شهدتها إيران في الآونة الأخيرة، مثل مقتل مئات لاحتجاجهم على رفع أسعار البنزين، ونتيجة لذلك، تلقى "الفيلق" بعض اللوم بسبب هذا القمع، لكن ذلك قد يتغير.
إن آيات الله الـ88 الذين يشكلون "مجلس الخبراء" الإيراني مكلفون بموجب الدستور بتعيين خلف للمرشد الأعلى، لكن هذه المؤسسة تعرف باعتمادها على جهات فاعلة من الخارج، ولا سيما "الحرس الثوري" الإيراني. فعادة ما يفوز الأعضاء في انتخابات المجلس بدعم مباشر وتمويل من عناصر "الحرس الثوري"، كما أن علاقاتهم بالأجهزة العسكرية-الأمنية أقوى بكثير من جذورهم في المؤسسة الدينية، وبالتالي، لا بد من اتخاذ القرار الفعلي بشأن خلف خامنئي المحتمل خارج المجلس.
إن موت سليماني يجعل هذا الوضع أكثر تعقيدا، إذ طالما استبدل خامنئي الولاء لأيديولوجيا النظام بتقديس لشخصه على مر السنين، وإذا كان سيغادر الساحة السياسية قريبا، فلن تكون للنخبة المقسمة إلى عدة فصائل - بما فيها "الحرس الثوري" الإيراني - سلطة محورية ترسي عليها أساسا جديدا للوحدة الداخلية والشرعية المحلية، ما سيطرح خطرا وجوديا على النظام كله.
والمفارقة أن خامنئي هو "رجل المؤسسات" الذي يؤمن بالبيروقراطية الحديثة غير المحدودة من أجل إضعاف دور الجهات الفاعلة من الأفراد، ومع ذلك، فإن تركيزه على دعم مجموعة من المؤسسات لا يهدف إلى تمكين هيكليات الحكومة الديمقراطية، بل إضعاف إمكانية إقامة تحالفات مستقلة ومؤسسات ديمقراطية قوية. واليوم، من الشائع أن يتم تكليف مؤسسات إيرانية بمهام متداخلة مع عدم وجود خيارات للتنسيق مع بعضها بعضا، أو اعتبار نفسها مسؤولة أمام أي سلطة غير المرشد الأعلى. ويساعد هذا التصميم خامنئي على عزل سلطته عن أي تهديدات محلية، سواء من النخبة أو من الشعب، ما يسمح له بالتمتع بصلاحية قصوى، لكن مع الحد الأدنى من المسؤولية عندما تسوء الأمور.
وأخيرا، إن خطر تركيز كثير من السلطة في يد خامنئي أمر واضح، ما الذي سيحصل عند رحيله؟ لقد كان سليماني يمثل سلطة بديلة لا تضاهى، كان شخصا قد منح خامنئي على الأرجح راحة البال بأن النظام قد يحافظ على استقراره متى حان موعد المرحلة الانتقالية، حتى الأنظمة الاستبدادية تستفيد من وجود مثل صمامات الأمان هذه، شخصيات يمكنها تقديم التوجيه خلال أوقات الأزمات وتتوقع الالتزام به دون اللجوء إلى التدابير القسرية. والآن يبدو أن آفاق الخلافة مقلقة على نحو أكبر بالنسبة إلى طهران، كما أن مستقبل النظام أقل تأكدا.
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من أخبار