Author

المرونة السويدية ونظم التربية والتعليم

|
أستاذ جامعي ـ السويد


أن يكون المرء مرنا معناه أن يتجنب التصلب في الموقف. والمرونة معناها أيضا تغيير السلوك والتصرف والممارسة لمواجهة التقلبات في المحيط.
بعد أكثر من عقدين من التدريس والبحث في جامعة سويدية أظن أنني توصلت إلى السر الذي يساعد هذا البلد وجيرانه مثل فنلندا والنرويج والدنمارك على التربع على قمة التصنيف في مجال التربية والتعليم.
إنها المرونة.
والمرونة جلية ليست فقط في حقل التربية والتعليم. إنها ظاهرة تطبقها السويد وشقيقاتها الإسكندنافية في أغلب المسارات والمضامير وحقول الحياة من اجتماعية وسياسية واقتصادية وغيرها.
وفي مقال اليوم سأركز على المرونة في حقل التربية والتعليم.
وأكتب عن هذه المرونة بعد حلي وترحالي في أكثر من جامعة عربية في الخليج أو في أرض العرب الواسعة. وسآخذ بعض المعايير الأساسية في الحسبان.
وسأتجنب التطرق إلى التصلب في المواقف والمسارات المتبعة في التربية والتعليم في المؤسسات التي أمضيت فترة فيها لأن الغاية هي عرض تجربة فريدة في النظرة إلى الحياة وليس النقد أو التهجم.
والغاية من المقال تأكيد دور التربية والتعليم في تكوين المجتمعات البشرية ورقيها. إن نظرنا إلى الدول العشر التي تتربع على قمة أفضل الدول في التعليم -والسويد من ضمنها- لرأينا أنها تأتي أيضا في مقدمة دول العالم في المعايير الأساسية التي نستخدمها لقياس الرقي والحضارة والتقدم.
في السويد وشقيقاتها الإسكندنافية هناك مرونة كبيرة في التعامل مع مسألة العمر. لا يجوز، حسب فلسفة التربية التي تتبعها هذه الدول أن يشكل العمر عائقا ليس في التعلم فحسب بل في تقديم خدمة التعليم والتدريس أيضا.
تدخل قاعة الدرس وقد يصادفك تلاميذ غزا الشيب رؤوسهم، أو قد تقرأ أن طالبا تجاوز الـ60 من عمره حصل على شهادة الدكتوراه.
هناك سن إلزامي للتقاعد وهو حاليا بلوغ عتبة الـ67 عاما، بيد أن الأستاذ الجامعي مثلا في إمكانه العمل بعد هذا السن ضمن تعاقد جديد مع جامعته أو أي جامعة أخرى طالما هو قادر على القيام بواجباته.
لا غرابة أن يكون بين أعضاء الهيئات التعليمية والتدريسية مسنون وصلت أعمارهم إلى عتبة الـ80 عاما.
وهناك مشروع قرار في السويد تحت الدراسة يدعو إلى رفع سن التقاعد الإلزامي إلى 75 عاما.
لقد ولى الزمن الذي كان الناس ينظرون فيه إلى الكهولة كأنها عبء. الأعمال والأشغال التي تحتاج إلى عضلات قوية بدأت في الانحسار وصرنا اليوم بحاجة إلى عضلات عقلية لا يتطلب تشغيلها إلا قليلا من الجهد، كتمرير الأنامل على لوحة المفاتيح.
وبدخولنا عصر الذكاء الاصطناعي صار في الإمكان تنفيذ كثير من الوظائف من خلال العالم الافتراضي الذي لا يتطلب وجودا جسمانيا حسيا لحامل الوظيفة.
ومن هنا أخذت التكنولوجيا الرقمية ونظم الذكاء الاصطناعي يدخلان في العملية التربوية والتعليمية. أغلب المعلمين في القسم الذي أدرس فيه يعيشون في قرى وقصبات بعيدة عن الجامعة بيد كأنهم معنا، رغم أنهم لا يوجدون إلا في المناسبات المهمة.
والمرونة جزء من العملية التدريسية برمتها يستفيد كل العاملين منها ومن ضمنهم الطلبة. هناك مرونة كبيرة بخصوص الحضور والوجود للطلبة.
بصورة عامة، يحق للطلبة عدم الوجود في الصف ولم يحدث يوما أنني قرأت أسماء الطلبة في الصف للتأكد من الحضور. على العكس، لو أخذت قائمة الطلبة إلى الصف وسجلت أسماء الغائبين لتصور البعض ربما قد أصابني مس من الجنون.
أكثر الواجبات الجامعية جماعية، وفي كل مقرر -المقرر ستة أسابيع مكثفة- يتم تقسيم الطلبة إلى مجاميع للعمل سوية وهذا ما يوجد روح التعاون والتعارف والتعامل والحوار. الوقت الذي يجب على الطلبة الحضور فيه هو عند تقديمهم العروض وهذا يحدث كثيرا ويشكل أساسا للنجاح في كل المقررات.
والمرونة مفهوم وممارسة ساطعة في الامتحانات وفي مسألة الرسوب والنجاح. الرسوب يعد استثناء ولهذا لا تستسيغه العملية التربوية بل تحاربه.
إن رسب طالب تحجب الدولة المنحة السنوية -الأجور الدراسية- التي تقدمها للجامعة عن ذلك الطالب. واردات الجامعات جلها تأتي من المنح التي تقدمها الدولة مكافأة للتدريس الذي هو مجاني في المراحل كافة.
كلما ارتفعت نسبة الرسوب تقلصت المنحة والعكس صحيح.
ولهذا يحق للراسب في مادة ما أن يتقدم للامتحان مرة ثانية وثالثة ورابعة حتى يحقق النجاح.
وإن حدث أن المتخرج من الثانوية غير مؤهل للالتحاق بالجامعة أو الكلية التي يرغب فيها أو الاختصاص الذي يحبه، في إمكانه اللحاق بمعاهد خاصة للتعويض وزيادة المعرفة حتى يصبح مؤهلا ويحصل على مراده.
قد يتصور البعض أن هذه المرونة محبطة للعملية التربوية ونتائجها لا بد أن تكون سلبية، لكن التجربة السويدية تبرهن العكس.

إنشرها