ثقافة وفنون

«الطفيلي» .. التفاوت الطبقي بأسلوب مبتكر

«الطفيلي» .. التفاوت الطبقي بأسلوب مبتكر

«الطفيلي» .. التفاوت الطبقي بأسلوب مبتكر

«الطفيلي» .. التفاوت الطبقي بأسلوب مبتكر

‫شهد عام 2019 عديدا من الأفلام السينمائية التي راوحت ما بين الجديدة بفكرتها أو المكملة لأجزاء سابقة، أو حتى معاد إنتاجها، ولقد شهدنا في الفصل الأخير من العام بعض الأفلام العربية والتركية، فكأن هوليوود أصبحت مخترقة من قبل منافسين جدد، أما منافستهما الكبرى فكانت كوريا، حيث أُطلق فيلم كوري جنوبي جديد في صالات السينما يحمل عنوان "الطفيلي" Parasite، فكيف كانت انطلاقته، ولماذا كان مميزا، بحسب آراء جميع المشاهدين؟‬

قضية التفاوت الطبقي‬
إن القضية التي طرحها الفيلم ليست جديدة، بل بحثتها مجلدات وتحدث عنها أكبر العلماء، وهي التفاوت الطبقي الموجود منذ الأزل، حيث إن كل المجتمعات تحوي الفقير والغني، وما بينهما أنماط حياتية مختلفة تصبغ شخصية كل منهما وتصقلها، كل بحسب تربيته، لذلك طرح القصة من هذا الجانب يعد مستهلكا في الكتب والمجلدات حتى الأفلام؛ لكن ما قام به الكاتب بونج جون هو إبداع في نقل هذه الصورة الطبقية بين الأغنياء والفقراء، يعد رائعا ويستحق جائزة السعفة الذهبية التي حصل عليها في مهرجان كان، وجائزة الجولدن جلوب لأفضل فيلم ناطق بلغة أجنبية، ما جعله يدخل التاريخ، كأول فيلم كوري يفوز بهذه الجائزة.‬

بداية مشوقة‫‬
يبدأ الفيلم بمشهد عن حياة عائلة بائسة من العاطلين، مكونة من الأب كيم كاتيك، يؤدي دوره الممثل سون كانج هو، وزوجته وابنيهما، فتى وفتاة في سن الشباب، يعيشون جميعا في فقر مدقع، داخل شقة ضيقة تحت الأرض، ونوافذ شقتهم في مستوى سطح الشارع، ولقد تم تصوير حياتهم بطريقة مبدعة تحاكي مشاعر المشاهد وعقله في آن معا، فأظهرهم على أنهم كائنات صغيرة تحيا في قبو، حيث يشاهدون المارة والعربات، وبالكاد لديهم نافذة صغيرة ينفذ منها ضوء أشعة الشمس، الطاقة التي يتعرفون منها على العالم، وما يدور حولهم أو فوقهم.‬

بين الغنى والفقر
ثم تبدأ الدراما مع اقتراب الفيلم إلى القصة الأساسية، وهي وجود عائلة غنية، وبدأ الطرح عن الفرق بين العائلة الفقيرة والعائلة الغنية، كل منهما تعيش فى مستوى اجتماعى يناقض الآخر تماما، وكأنهما عائلة واحدة فقيرة تواجه نسخة ثرية منها، وتشعر نحوها بالحسد والغيرة، فليست صدفة أن كل عائلة منهما مكونة من زوجين وابن وابنة، وكأن الفيلم يرغب في أن يقول إنه لا فارق بين العائلتين، إلا فى المستوى الاجتماعى، والآباء في العائلتين كل همهم رعاية ورفاهية أبنائهم، وإن اختلفت الوسائل.‬

سعي الفقراء
‬يقوم ولد العائلة الفقيرة بسرقة كلمة مرور الإنترنت من الجيران، وتزوّر الابنة شهادات تتيح لشقيقها الحصول على وظيفة معلم لغة إنجليزية لدى العائلة الثرية، وتتسلل العائلة الفقيرة تباعا لتحتل وظائف داخل منزل العائلة الغنية بطرق تحايل خبيثة، فالابنة تسعى إلى استبدال السائق بوالدها، والوالد يسعى لاحقا إلى استبدال مديرة المنزل بزوجته، والابن يرشح شقيقته للزوجة الثرية، على أنها فنانة موهوبة بارعة في علاج الأطفال باستخدام الرسم، لكن في كل مرحلة من التطفل على العائلة الثرية يصل الأمر إلى تدبير المؤامرات للتخلص من العاملين في المنزل، والحصول على مناصبهم، دون الإشارة إلى القرابة التي تجمعهم.‬

اهتمامات الأغنياء‬
من ناحية أخرى نرى العائلة الثرية مثقلة بهموم تبدو تافهة، فالابن مشاغب لكنه ذكي ويهوى الرسم، وتراه أمه غريب الأطوار، ونرى الأم في كثير من المواقف ساذجة، فهي تصدق بسهولة حكايات السائق الجديد الملفقة عن خادمة المنزل، يعامل رجل الأعمال الناجح سائقه الجديد بلطف بالغ، لكنه بينه وبين زوجته يصف - بقرف بالغ - اشمئزازه من رائحة الصابون الرخيص الذي يفوح من ملابس السائق المغسولة، هي ليست رائحة كريهة، لكنها منفرة وغريبة على أنفه، ومثل تلك التفاصيل، علامات تفضح الأعماق القبيحة لشخصيات العائلة الثرية، وتزرع النفور والكراهية بين الشخصيات.‬

المجتمع هو المسؤول‬
لقد نجح الفيلم في عرض الصراع بين الطبقات، خصوصا الطبقة الفقيرة المعدمة التي تحاول بأي طريقة أن تجد لها مكانا في المجتمع، بين وحش الرأسمالية العملاق، فجاء السيناريو دسما ومتكاملا لا ينقصه شيء على الإطلاق، مدعما بحوارات شيقة تسودها الكوميديا السوداء التي تسخر من الأحوال التي يضع فيها المجتمع البشر، الذين يتنفس بعضهم في الهواء الطلق والبعض يكاد يتنفس للعيش، ولقد تم سرد الفكرة بسلاسة وبناء رائع للأحداث والشخصيات، كاشفا لنا المخرج التفاوت بين كل طبقة من المجتمع، وتباين متطلبات كل منها، وكيف هي غريبة تلك الهوة بين البشر، وإلى أي مدى نتغير بتغير أوضاعنا، وتمسكنا بالبقاء سالمين دون النظر إلى الغير. ولقد أسقط المخرج اللوم بالكامل على المجتمع وما يضعنا فيه من مآزق تؤول بنا إلى العدم لنترك حياة بالكامل خلفنا، وفي كل خط وضعه بونج يرتفع ويتوغل داخل شخصياته، ليظهر معادنها الأساسية والطبيعة البشرية المتأصلة في الجميع مهما اختلفت الحالة المادية والبيئة السكنية، فستظل الحياة واحدة وعبثيتها لا مفر منها، والمعاناة حتمية حتى إن لم تنعم بغير العز، والعزاء لمن عانى الأمرين وتوقع من الحياة الإنصاف. في المجمل بونج وضع سيناريو واقعيا ممتعا سلسا في التنقل بين خطوطه، مدعما بكم هائل من الكوميديا السوداء، ولم يخل من الهجوم البشري على المجتمع وما يحويه من فساد.‬

تصوير إبداعي‬
مواكبة للسيناريو الضخم جاء التصوير بالمستوى نفسه ليخدم القصة، فصور ما تحتويه المناطق الغنية من رفاهية، والفقيرة التي لا يوجد فيها الحد الأدنى من الحياة، ولقد استخدم كادرات واسعة في المناطق الأعلى مستوى، وكادرات ضيقة في المناطق الأخرى، مع ألوان تتناسب مع هذا وذاك، وبرز ذلك بقوة في مشهد المطر، حيث صور أولاد العائلة الغنية يلعبون في حين إن العائلة الفقيرة تحاول التنقل بين المجاري، إضافة إلى مشهد الطاولة الذي ظهرت فيه العائلة الغنية جالسة على الطاولة تتناول الطعام، وفي المقابل العائلة الفقيرة تستعمل الطاولة للاختباء من المطر؛ لقد كانت مشاهد رائعة، وتصوير أقل ما يقال عنه إنه مميز، مع الإشارة إلى أن أحداث الفيلم كلها تدور فقط في مكانين اثنين، القبو والبيت الراقي، مقارنة لعبها المخرج بحرفية، رمزية عالية لتصوير الطبقات.‬
أما عن موسيقى الفيلم فنستطيع القول إنها التتمة المميزة والساحرة لذلك البناء المتكامل الذي سيصمد ليحقق المعادلة، التي قلما نجد فيلما يستطيع تحقيقها، وهي نيل رضا الجماهير العريضة والنقاد.‬
يذكر أن الفيلم الذي يعد السابع للمخرج بونج حقق نجاحا مفاجئا في شباك تذاكر الولايات المتحدة، كما كان أول فيلم للمخرج تتخطى إيراداته العالمية مائة مليون دولار.‬
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من ثقافة وفنون