ثقافة وفنون

جون دوبوا: الكتابة هي الوسيلة الأقل غباء للعيش

جون دوبوا: الكتابة هي الوسيلة الأقل غباء للعيش

قرر الفرنسي جون بول دوبوا خريج شعبة السوسيولوجيا في الجامعة، الرهبنة في محراب الكتابة الروائية؛ منذ سنة 2004، بعد أن أمضى ربع قرن من عمره في عالم الصحافة؛ منتقلا من الرياضة مع صحيفة جنوب غرب "سود وتست"، نحو قضايا العدالة والسينما مع صباح باريس "ماتان دو باري"، منهيا مشواره الصحافي بالتحقيقات الكبرى في مجلة الملاحظ الجديد "لونوفيل أوبسرفاتور".
أسهم المشوار المتعدد الروافد في تتويج ابن الجنوب الفرنسي بجائزة جونكور؛ ثاني أهم جائزة في عالم الأدب بعد جائزة نوبل، عن روايته "كل الرجال لا يسكنون العالم بالطريقة نفسها" 2019 Tous les hommes n'habitent pas le monde de la même façon، متفوقا على أسماء روائية من العيار الثقيل؛ في مقدمتها البلجيكية آميلي نوتومب بروايتها "عطش" التي كثر الحديث عن إمكانات فوزها في الصحافة، وزميلاه الفرنسيان جان لوك كواتلام "حصة الابن"، وآوليفييه رولان "عالم خارجي".
حصد هذا الصحافي الروائي بعد مضي ثلاثة عقود ونصف من خوضه مغامرة التأليف في مجال الرواية سبع جوائز؛ أشهرها جائزة "فيمينا"، التي أنهت مشواره الصحافي عام 2004، عن روايته "حياة فرنسية"؛ حول رؤساء الجمهورية الخامسة "ديجول، بومبيدو، بوهر، جيسكار، ميتران، وشيراك"، وجائزة ألكسندر فيالت، عام 2012، عن روايته "قضية شنادر"، وقبلهما؛ عام 1996 جائزة التلفزيون الفرنسية عن كتابه "كينيدي وأنا"؛ الذي تحول بعد ثلاثة أعوام إلى فيلم سينمائي.
تعد رواية دوبوا العمل الـ22 في قائمة إبداعاته؛ المتأثرة بالأدب الأمريكي، والمطبوعة بالعمق الإنساني؛ إذ يجد القارئ نفسه أمام رواية الإنسان بامتياز؛ الإنسان الصامت الذي يتلقى الحياة، ويستسلم لها بلا حول له ولا قوة، رواية الإنسان الذي يدخل السجن دون أن يعي أنه كان في سجن من طبيعة أخرى في أعوامه السابقة. وقد أبدع في كشف الاختلافات الممكنة بين البشر، وحقهم في العيش، وإن كان بسلوكيات مختلفة، عبر مزج أجواء من الكوميديا السوداء، فيكون المنتج رواية مؤثرة وحنينا إلى السعادة الضائعة.
تحكي الرواية نوستالجيا عن السعادة المفقودة في حياة سجينين، صاحبي شخصيتين متناقضتين. الرواي "بول هانسن" الشخصية الوديعة والرقيقة التي تقبع، وفق الرواية، في سجن بوردو في إقليم كيبيك الكندي، ويحكي عن مقاسمته زنزانة مع "هيلز آنجي"؛ الشخصية الرائعة والغريبة والمرعبة التي تثير التعاطف، فهي لا تحلم إلا بتمزيق من لا يعجبها، لكنها تعاني فوبيا الفئران وأدوات الحلاقة. مع تقدم الأحداث نحو النهاية سنعرف سبب دخولهما السجن، في غضون ذلك، تتصاعد ذكريات السعادة المفقودة.
يوظف الكاتب أسلوبا طبع أعماله السابقة، يتمثل في استخدامه بذكاء تقنية الاسترجاع، فهو يبدأ في كل مرة قصة من ماضي بول، ويعود من بعدها إلى زنزانة السجن ليذكر القارئ بالحاضر وبواقع بول، ثم لا يلبث أن يتأرجح على حبال الزمن الذي يعد لعبة روائية خطرة، حين يتحول إلى سباق مع الزمن، وضرب من ضروب التشويق، فيضطر القارئ إلى التقلب على طول صفحات الرواية بين مأسي الماضي ومشكلات الحاضر، ليكتشف السبب الحقيقي وراء دخول بول السجن.
تتقاطع في الرواية مواضيع الفشل والضياع والحسرة والندم، وقد حاولت مختلف الشخصيات، بحسب موقعها في المتن الروائي تجسيد ذلك، حتى إن كان الإعلان عن ذلك مبكرا في مستهل الرواية على لسان الراوي بول هانسين، حين قال "هناك طرق كثيرة لا تحصى للفشل في الحياة".
بعيدا من الرواية، قريبا من صاحبها الذي قال معلقا على فوزه أمام الصحافيين "هذا أمر لا يصدق، أنا لست معدا لأمور كهذه، وهذا ليس عالمي". يتشكل لدى هذا الروائي انطباع عند حديثه عن كتبه يتكون من أنه يرغم الآخرين على سماع ما لا يتحمل هو شخصيا سماعه، لذا لا يتردد في القول "أحب أن تكتفي الأشياء بنفسها دون وسيط، وأجدها جميلة مثلما هي من دون شرح أو تأويل". ويضيف في السياق نفسه "أستطيع أن أكتب عن أشياء مثيرة للحرج في الروايات، لكن ما يحرجني أكثر هو التحدث عنها لاحقا في الحوارات. الرواية تتيح لي ترتيب أمور غامضة وملتبسة ومبعثرة في رأسي، لكن الحديث عن هذه الأمور يبدو لي معقدا جدا، ورغم أنني صادق مع نفسي ينتابني دائما الإحساس بأنني أكذب حين أتحدث عن رواياتي".
يصدم الرجل كثيرين في حوار له مع مجلة "قراءة" الفرنسية، في عدد تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، حين يعترف بأن "الكتابة لم تكن الهدف أبدا بالنسبة إليه، بل كان الهدف هو البقاء على قيد الحياة، والعيش بشكل أفضل. الكتابة هي الوسيلة الأكثر متعة، الأقل غباء للعيش، لم يكن المال هو مشكلتي بل الوقت، ولا أبالي بالباقي، الكتابة هي شراء الوقت للقيام بما نرغب فيه، الكتابة هي الثغرة التي عثرت عليها في هذا النظام، هي النشاط الذي من شأنه أن يوفر لي ما يكفي للعيش".
يعتبر دوبوا - انسجاما مع رؤيته لسلوكه الروائي - مهمته الأساسية هي كتابة الرواية وليس الحديث عنها، بالسعي إلى الترويج لها في وسائل الاعلام، "إن الحديث عن كتبي يشعرني بالحرج، هناك أناس موهوبون، ويتألقون في هذا التمرين الإعلامي، أنا لست متألقا، ولست ذكيا، ويلزمني وقت معين حتى أجيب عن الأسئلة، وحتى عندما أجيب أشعر بأن إجابتي ليست في محلها، وأنها ناقصة، في الحقيقة مهمتي هي كتابة الرواية، وليس الحديث عنها".
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من ثقافة وفنون