ثقافة وفنون

أدب الأقليات .. منتج برسم ضيوف اللغة

أدب الأقليات .. منتج برسم ضيوف اللغة

ازداد الحديث في الساحة الثقافية العالمية أخيرا عن "أدب الأقليات"؛ أو "أدب السكان الأصليين"، رغم ما بينهما من اختلاف وتباين، فالثاني مجرد مثال ضمن زمرة أصناف تحدد معالم أدب الأقليات. لا يستقيم الكلام عن هذا الأدب إلا في حضرة "أدب الأكثرية"، وهنا تتناسل الأسئلة حول دواعي وصف منتج أدبي معين بأنه "أقلية" أو "أكثرية". بمعنى آخر، على أي أساس يعد هذا الأدب أقليا؟
يتخذ اتجاه نقدي لغة الكتابة معيارا لرسم الحدود بين أدب الأغلبية وأدب الأقلية، فكل ما أنتج بلغات أقلية غير اللغة المهيمنة، في نطاق جغرافي محدد، وجب تصنيفه في خانة أدب الأقلية. لا يصمد هذا المعيار طويلا أمام المتغيرات، ما دفع النقاد إلى تجاوزه، عادّين هذا الأدب ليس أدب لغة أقلية، بل هو الأدب الذي تصنعه أقلية ضمن اللغة الرئيسة. ويشترط المتشددون منهم ضرورة اهتمام موضوعات هذا الأدب بالسياسة، حتى تنطبق عليه صفة أدب الأقلية.
تعددت المحاولات الرامية إلى وضع تعريف دقيق لماهية أدب الأقلية، لكنها في كل مرة تواجه باستثناء يكسر القاعدة؛ فما أن يقع الإجماع في حقل الأدب على تحديد معين له، حتى تظهر أعمال أدبية تفرض بالضرورة إعادة النظر فيه. على هذا الأساس، لم يتردد أحدهم في القول "لا توجد آداب أقلية محددة ومسماة"، فهناك أعداد هائلة من الأفراد الذين يعيشون مع لغة ليست لغتهم؛ أو حتى ما عادوا يعرفون ما هي لغتهم، ولا يجيدون اللغة العامة المرغمين على استخدامها.
بناء عليه، يمكن القول إن مفردة "الأقلية" لا تشير إلى آداب بعينها، بل تعني ضرورة استجماع جملة من الشروط لكل أدب، في صميم ما يسمى "الأدب السائد". فالأدب في البدء والمنتهى ما هو إلا صوت كل الأقليات، مع اختلاف مستوى وقوة حضوره وتوزعه على الشفهي والمكتوب والإيحائي. ويذهب دولوز وجواتاري، في كتابهما حول كافكا، إلى أن من يكتبون بالفعل هم الأقليات، أولئك الذين يخترقون كتلة منظمة، ويسعون إلى خلخلة بنيتها، واجتراح منافذ تمكنهم من تفجيرها من الداخل.
"أن تكتب في لغة أخرى، أو أن تكتب بلغة أخرى، هو أن تختبر الحدود القصوى لوضعية الأقلية"، بحسب تعبير محمد أيت حنا المترجم المغربي. فمن يكتبون بالفعل هم الأقليات، وهم من يعيشون غرابة فعلية تجاه اللغة، لكنهم يسعون إلى قلب هذه الغرابة كي تصير غرابة اللغة نفسها. بيد أن سقف هذه الكتابة يبقى قياسا إلى درجة وعيهم بالغربة، ووعيهم بوضعية الأقلية؛ أي بكونهم مجرد ضيوف على هذه اللغة. لكنها ضيافة من نوع خاص، فالمقيم في المكان ليس كالمار منه، لأن هذا الأخير يترك أثرا لا ينمحي، بينما المقيم لا يعمل سوى على إضافة طبقة أخرى إلى طبقات التراكم المتشابه.
يندرج الاهتمام بموضوع "أدب الأقلية"، على الصعيدين العالمي والعربي، ضمن سياق تعزيز وتطعيم الثقافات المهيمنة من ناحية، ومنح هذا الأدب حق التميز والتفرد في ظل استحواذ أدب الأكثرية من ناحية أخرى. كل هذا يفرض الاقتراب من هذا الأدب، قصد فهم واستيعاب مضمونه، والوعي بجمالياته، ثم العمل على تشجيعه، ونشره وتداوله عبر السرد الروائي، والمحافظة على خصائصه الإبداعية. هذا ما علمت جمهورية الصين الشعبية التي تضم 55 أقلية قومية، عليه منذ عدة أعوام. فقد أعلنت رابطة الكتاب الصينيين أنها مولت نحو 600 مشروع حول أدب الأقليات، ونشرت منها حتى الآن 80 عملا أدبيا بين الشعر والنثر.
أدرك عديد من الدول أن العناية بهذا الأدب من شأنها أن تغني الإرث الثقافي السائد في الدولة، فما كتبه كافكا اليهودي التشيكي الذي يمثل أقلية داخل نظام اللغة والأدب الألمانيين، شكل علامة فارقة في الثقافة الألمانية. ومن بمقدوره تذكر تاريخ العبيد في الولايات المتحدة الأمريكية لولا الكتابة الزنوجية لأسماء من طينة فريديك دوجلاس وتوني موريسون وآخرين. أما دور الأقليات في الأدب الفرنسي فلن ينكره إلا جاحد، فالإيرلندي صامويل بكيت نجح في بناء شبكة عنكبوتية من الإحالات المزدوجة بين لغتي موليير وشكسبير، فيما أدخل البلغاري تزفيتان تودوروف المرح إلى الكتابات الأكاديمية الجافة، ونقل المغربي محمد خير الدين التراث الأمازيغي لسكان سوس جنوب المغرب في أعماله الروائية إلى دهاليز الأكاديمية الفرنسية. وأبدع كتاب مغاربيون من تونس والجزائر والمغرب "الطاهر بنجلون، أحمد الصفريوي، كاتب ياسين، آسيا جبار، ياسمينة خضرة..." في صهر مروث سكان شمال إفريقيا في الثقافة الفرنسية الأصيلة.
من المفارقات أن الوطن العربي يزخر بالأقليات العرقية "الأكراد، النوبيون، الطوارق..." والدينية "المسيحيون، البهائيون، الشيعة، الأقباط..."، إلا أنه في المقابل يفتقد لهذا النمط من الأدب، فالأسماء التي تنطبق عليها مواصفات أدب الأقلية معدودة. نذكر منها رائعة "الشمندورة" للكاتب المصري النوبي محمد خليل قاسم، التي تسجل وقائع تهجير النوبيين في الربع الأول من القرن الـ20. ورواية "يا مريم" للكاتب العراقي المسيحي سنان أنطوان عن معاناة الأقليات الدينية في العراق. وعن الأقليات داخل جمهورية المرشد كتب الروائي الإيراني الأهوازي روايته "حمار الغجر الأحمق".
رغم كون الوطن العربي موطن الأقليات بامتياز لأنه مهد الحضارات القديمة، وقلب العالمين المسيحي والإسلامي، فإن التعاطي مع أدب الأقليات لا يزال محتشما، ويجد هذا الأمر تفسيرا له في السياسة، فأغلب الأنظمة فيها يعمد إليها طحن الهويات الفرعية ودمجها قسرا في هوية الحزب أو الزعيم، ما ولد في النهاية "هويات قاتلة" على حد وصف الكاتب اللبناني أمين معلوف.
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من ثقافة وفنون