ثقافة وفنون

محمد شحرور .. معاصر في جبة فقيه

محمد شحرور .. معاصر في جبة فقيه

أعاد خبر وفاة المفكر السوري محمد شحرور مساء السبت الماضي إلى الواجهة، سجالا حادا بين فريقين يختصمان حول الإرث الفكري للرجل، فالمنتقدون يرون في أطروحة الراحل محاولة لتطويع النص الديني الإسلامي، ليتلاءم مع مرجعيته الماركسية. أما خصومهم فيعدونها اجتهادا في سبيل إقامة توليفة منسجمة بين الإسلام والعصر، بالعمل على تجاوز قدامة التراث المضادة للزمن، والسعي إلى تزمينه وتحديثه وإصلاحه.
يختلف الفريقان حول "المشروع الفكري" لمهندس تجاوز هندسة الأبنية بالأسمنت والخرسانة المسلحة نحو هندسة العقول بالفكر والثقافة، في كونه مبتدعا؛ في أعين المحافظين، فقد تجرأ على التفكير خارج الإطار، بتعبير كارل بوبو، وجرأة على الثوابت بمخالفة الجمهور ونقض الإجماع. بينما يراه معشر التقدميين حاملا للواء التنوير والحداثة، في نسخته العربية والإسلامية، فقد سبق للأنثروبولوجي الأمريكي ديل إيكلمان أن وصفه بـ"مارتن لوثر الإسلام". بعيدا عن هذا الجدال المألوف في الساحة العربية الإسلامية الذي رافق العشرات من المحاولات التنويرية والمشاريع الفكرية التي يقول أصحابها أنهم يسعون إلى الإصلاح والتنوير.. نشير إلى أن أطروحة محمد شحرور؛ المسبوكة في عشرة كتب، تشكل إحدى اللبنات الأساسية ضمنها، التي انطلقت 1990 مع مؤلفه المؤسس، الذي تطلب لتأليفه 23 سنة، وكان بعنوان "الكتاب والقرآن ـ قراءة معاصرة" (822 صفحة)، الذي أثار جدلا فكريا كبيرا في العالم العربي والإسلامي.
يدعو محمد شحرور إلى التعامل المباشر مع النص الديني، واعتماد مناهج علمية حديثة بعيدة عن المناهج المتبعة في تفسير القرآن. واختار لأجل ذلك المنهج اللغوي، محددا "الجذر اللغوي" ضابطا وحيدا في تفسير القرآن، فعند تفسير أي كلمة في القرآن يلجأ إلى القواميس بحثا عن معنى أكثر توافقا مع القيم المعاصرة، ما فتح عيونه على رؤى وتأويلات وممكنات في النص الديني لم تكن موجودة بهذه الصيغة أو على الأقل غير منتشرة.
إن ما يعانيه المسلمون اليوم، برأي المهندس السوري، هو إحدى نتائج تكلس العربي الإسلامي وتقديس التراث، وأخذه على الإجمال دون تفحص وبلا تمحيص. لذا يدعو في مشروعه القائم على توظيف أدوات اللسانيات في الدراسات القرآنية، إلى إعادة قراءة النص الديني بمنهجية جديدة، من شأنها المساعدة على مراجعة كثير من المسلمات في الوعي العربي الإسلامي.
فالخطاب الديني، الذي يقدمه المسلمون اليوم للعالم في اعتقاد شحرور لا يعبر عن الإسلام الحقيقي، ولا يمثل الخصائص الثلاث (الرحمة والخاتمية والعالمية) لرسالة آخر الأنبياء، بل يقدم في بعض الأحيان صورة سيئة عنه، كما هو الحال مع التنظيمات الجهادية، ما يفرض بالضرورة مراجعته وتجديده وقراءته بعين العصر، وفق الأرضية المعرفية، التي تتوافق مع هذا الواقع.
يرى الراحل أن الأمة الإسلامية بحاجة إلى الشجاعة للاجتهاد، رافضا أن يكون باب الاجتهاد قد أغلق، كما نسمع من حين لآخر. فكل ما هناك أن "إمكانات الاجتهاد ضمن الأطر، التي رسخت منذ القرنين الثاني والثالث الهجريين، قد استنفدت، ولم يعد الاجتهاد ممكنا إلا إذا تم تجاوز هذه الأطر، والعودة إلى قراءة التنزيل على أساس معارف اليوم، واعتماد أصول جديدة للفقه الإسلامي، والأهم من ذلك كله، أنهم لم يكتفوا بوضع الأطر وتحديدها، بل تم إغلاق هذه الأطر تماما".
لا تبتعد أطروحة شحرور عن باقي المشاريع الفكرية، التي قدمت ضمن السياق نفسه (محمد الجابري، محمد أركون، أبو القاسم حاج حمد، نصر حامد أبو زيد، الطيب التزيني، هشام جعيط، حسن حنفي، حسين مروة، وجورج طرابشي...)، لكن مؤلفات الراحل يطغى عليها الحس "النضالي"، فسرعان ما تظهر القراءة المعاصرة، التي تعرضها مؤلفاته بوضوح معالم الصراع، الذي انخرط فيه ضد من عارضوا أفكاره وتصدوا لها بالاستناد إلى ثلاثية: الترادف، والقياس، والتسلط.
تسعى هذه المحاولة إذن إلى "تنقية التراث" من شوائب السياسة والتاريخ والثقافة... غير أن صاحبها من حيث لا يدري يؤسس لما يدعي أنه يسعى لتجاوزه، فمشروعه، مع التحفظ على هذا الوصف، يزعم قراءة الموروث الديني برؤية تجديدية منفتحة على الواقع.
ويظهر ذلك جليا فيما قام به في كتاب "فقه المرأة – نحو أصول جديدة للفقه الإسلامي" (2000)، وقبله في كتاب "الإسلام والإيمان – منظومة القيم" (1996). هذا يجعل دعوات الراحل لما أسماه "عقلنة النص الإسلامي" محل محاججة، لأن ما يؤسس له من فقه معاصر اليوم، سيتحول غدا "نقل قابل"، وهو عين ما يعيبه على التراث.
بصيغة أخرى، نقول إن الـ30 سنة التي أمضاها الراحل في التأسيس لقراءته المعاصرة للإسلام، استنادا إلى ثنائية التقليد في مواجهة التنوير، ليست سوى صورة مضادة لإسلام الفقهاء؛ بتعبير المفكر الليبي الراحل الصادق النيهوم، تم التوسل من أجل صناعتها، بالمنظومة القيمية الحداثية حتى القانونية، وقد بدا ذلك واضحا في نتائج تأويلاته، التي أرادها أن تحقق بالفعل مقولة إن "الإسلام صالح لكل زمان ومكان".
وزاد من هشاشة أطروحة الرجل، مقارنة بمشاريع أخرى ضمن المدرسة الإصلاحية نفسها، من قبيل العالمية الإسلامية الثانية لدى حاج حمد أو الإسلاميات التطبيقية مع محمد أركون... انكفاء محمد شحرور على المدخل اللغوي (اللسانيات)، الذي لم يكن أول من استخدمه في الدراسات القرآنية، فأزمة العقل الإسلامي أكبر بكثير من أن تحصر في إشكال لغوي عند قراءة النص الديني.
إن الاختلاف ونقد ما يدافع عنه شحرور من أفكار وتأويلات، ينبغي ألا يكون سببا للحقد والضغينة عليه، كما بدا على ألسنة الكثيرين، بمن فيهم أسماء تزعم وصلا بالثقافة والتنوير والمعرفة، ليلة رحيله. فالرجل في البدء والمنتهى قام بفعل الاجتهاد وأعمل عقله وقلب نظره، هذا هو الأساس، حينها لا تهم نتيجة ذلك الفعل صوابا كانت أم خطأ.
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من ثقافة وفنون