FINANCIAL TIMES

تنقيب عن خامات تشكيل الثقافة في عاصمة الضباب و«التفاحة الكبرى»

تنقيب عن خامات تشكيل الثقافة في عاصمة الضباب و«التفاحة الكبرى»

أضع زوجا من السماعات وأتحدث مع زميلتي ليلى رابتوبولاس على الخط، كل أسبوعين في الاستوديو الصوتي تحت الأرض، في مبنى صحيفة «فاينانشيال تايمز».
ليلى تعمل في مكتب نيويورك. إنه الصباح بالنسبة إليها.
نتجاذب أطراف الحديث فيما يضبط منتج البرنامج مستويات الصوت. إذا كانت محادثتنا تنتقل إلى أي شيء جوهري، فإنها تقول: "احفظنه للعرض، أيتها السيدات!"، لذا نتبادل القيل والقال في المكاتب، ومقاطع عن حياتنا في بريكستون وبروكلين.
أنا وليلى مشاركتان في استضافة برنامج "نداء الثقافة" الذي يبث على الإنترنت كل أسبوعين: "محادثة عبر الأطلنطي من صحيفة فاينانشيال تايمز" هي الطريقة التي نقدمه بها.
تشمل مناقشاتنا كل شيء من الأفلام والكتب والكوميديا، إلى اتجاهات الغذاء والتكنولوجيا وشبكة الإنترنت.
في كل حلقة، تقابل إحدانا ضيفا نعتقد أنه يغير الثقافة ويصنع آفاقا جديدة في مجاله.
خلال الأشهر القليلة الماضية، كانت إحدى المحادثات التي ظهرت تدور حول المدن نفسها، القصص التي نراها تتكشف في لندن ونيويورك، وأوجه التشابه والاختلاف بين المكانين. كيف هي الثقافة؟ وكيف هو التغير الثقافي؟ وما الذي يدفع هذا التغيير؟
تعني العولمة والإنترنت أننا نتشارك الثقافة بشكل أكبر، خاصة ثقافة البوب، أكثر من أي وقت مضى. وبهذا المعنى، فإن أوجه التشابه بين المشاهد في مدينتينا أكثر عمقا من الاختلافات. يتم نشر الأفكار والتوجهات عبر الإنترنت عبر وسائل التواصل الاجتماعي وبث التلفزيون والبودكاست (البث الصوتي عبر الإنترنت) حيث يمكن أن تشعر كما لو أنها تحدث في جميع أنحاء العالم في وقت واحد.
كما أن الإنترنت غيرت طبيعة الطرز القديمة: في التسعينيات، كان على الجماهير البريطانية الانتظار عدة أشهر، لمشاهدة فيلم في هوليوود. هذا نادرا ما يحدث الآن.
هناك حجة مفادها أن التزامن يساوي التشابه، وهناك من يرى في ذلك "تسطيح الثقافة".
الخصوصية لا تقل أهمية عن أي وقت مضى في الفن. تعتمد بعض برامجي التلفزيونية المفضلة: أتلانتا وبيكي بليندرز وديري جيرلز على إحساس قوي بالوقت والمكان.
الأمريكيون حاليا مشدودون إلى برنامج The Great British Baking Show (يعرفه البريطانيون باسم "Bake Off")، وهو ما يعني عرض تحضير الخبز في بريطانيا.
على العكس، نحن في بريطانيا مشغولون بحماس بمشاهدة برنامج Queer Eye، بمعنى العين الغريبة.
في الوقت الحاضر، قد تلعب الجغرافيا دورا أقل أهمية فيما نستهلكه من التركيبة السكانية والطبقة والذوق. يتم رسم الخطوط بشكل مختلف.
هناك موضوعان رئيسان بشكل خاص يعيدان تشكيل الثقافة على جانبي المحيط الأطلسي.
الأول يتعلق بالعرق والتمثيل. والثاني، بالنوع الاجتماعي والقوة. كلاهما يتعلق بالهوية، وهما مرتبطان بشكل وثيق.
عندما أجريت مقابلة مع جورج مبانجا العازف والمذيع على الإنترنت، الملقب جورج الشاعر لبرنامج نداء الثقافة هذا الصيف، تحدث عن إدراكه بأن مجتمعات الطبقة العاملة من السود في كل من بريطانيا والولايات المتحدة، تواجه تحديات متشابهة بشكل لافت للنظر: التمييز، والفقر، والتحصيل التعليمي المنخفض، وارتفاع معدلات السجن.
أقام كذلك أوجه تشابه بين مبنى المجلس، حيث نشأ في أحد مشاريع الإسكان المحلية في لندن، ومشاريع الإسكان في بروكلين أو بالتيمور.
مسلسله بعنوان: "هل سمعت التسجيل الصوتي من جورج؟" مبتكر ومؤثر ببراعة. كان مستوحى جزئيا من حركة حياة السود معتبرة Black Lives Matter التي نشأت في الولايات المتحدة، لكنها متأصلة بعمق في التجربة البريطانية للسود.
يقول جورج في الحلقة الأولى: "أن تسرد قصتك فهذا مفتاح البقاء".
غادر منزله إلى جامعة كامبريدج، وأصبح مغني راب، وهجر من علامة تسجيل تخصه، ثم اكتسح الجميع في حفل توزيع جوائز البودكاست البريطانية هذا العام.
نشرت ريني إدو لودج، ضيفة أخرى على البودكاست، كتابها الرائد "لماذا لم أعد أتحدث إلى الناس البيض حول العرق؟" في عام 2017. الفصل الأول يروي تاريخ حياة السود في بريطانيا.
قالت إنها ألفت الكتاب لأن تدريس تاريخ السود في مدارس بريطانيا، يركز على الولايات المتحدة، حيث يبرز بالدرجة الأولى أهوال العبودية والتمييز العنصري والحقوق المدنية.
ربما يكون من السهل على البريطانيين البيض مواجهة تجربة السود في أمريكا مقارنة بتاريخنا من حيث الصلة بالرق والعنصرية.
بالنسبة إلى مبانجا وإدو لودج، هناك قوة في "اسرد قصتك"، لكن ماذا عن سرد قصة شخص آخر؟ بالنسبة إلى زادي سميث، وهي نيويوركية-بريطانية مختلطة العرق، فإن كتابة-قراءة-الروايات هي، في بعض النواحي، ممارسة للاستيلاء بوضع اليد.
كتبت في مقال نشر الشهر الماضي: "في صفحات الروايات، كنت على حد سواء بالغة وطفلة، سوداء وبيضاء، سوية وغير سوية، مضحكة ومأساوية، ليبرالية ومحافظة، متدينة وملحدة، ناهيك عن أنني حية وميتة".
يبدو الأمر كما لو أننا جميعا نعمل في الوقت الفعلي على ما نعنيه بالتملك الثقافي، عندما يكون ضارا، وعندما يكون مخصبا بشكل مبدع.
التحول الثقافي الثاني من حيث النوع الاجتماعي والسلطة، مرتبط بطبيعة الحال بذلك. "التقاطع"، فكرة أن التمييز على أساس العرق، والطبقة، والهوية الجنسية والتوجه، يتداخل بطرق قبيحة وغالبا ما تكون خفية، لم يعد يقتصر على الأدبيات الأكاديمية.
الموجة الرابعة للحركة النسوية التي ظهرت عام 2012، متداخلة في طبيعتها ورقمية في منهجيتها: فهي تسخر وسائل الإعلام الاجتماعية من البداية.
لا أعتقد أن حركة #MeToo كان يمكن أن يحدث دون العمل الأساسي من إعداد هذه الموجة الرابعة. قد تعني كلمة "النسوية" أشياء مختلفة لأشخاص مختلفين، لكنها تبدو وكأنها حركة تمتد عبر القارات.
بدأت حركة #MeToo في أمريكا، وتم كشف الادعاءات حولها رفي واينشتاين ودفعها إلى العلن من قبل صحيفة نيويورك تايمز لكنها قصة عالمية. عندما وصلت جودي كانتور وميجان توهاي، الصحفيتان في صحيفة نيويورك تايمز اللتان قادتا النشاط الصحافي حول واينشتاين، إلى لندن في الآونة الأخيرة للترويج لكتابهما: "هي قالت"، كانتا تتحدثان إلى حشود مكتظة. هناك شعور بالتصميم المشترك.
حين ظهرت ناشطتان في الحركة النسوية في البودكاست أخيرا، الكاتبة الأمريكية جيا تولينتينو والممثلة الكوميدية البريطانية سارة باسكو، كانت كل منهما تسعى إلى كشف أنظمة الأبوية التي تحكم حياتنا.
على الرغم من أنهما تتبنيان مناهج مختلفة، إلا أن كلا منهما مهتمة بتغيير صورة المرأة في وسائل الإعلام، وفي الرغبة، بعد # MeToo إلى الاحتفاء بـ"النساء المنسيات" في التاريخ.
هذه بعض أوجه التشابه. بيد أن السؤال هو كيف تختلف المشاهد الثقافية في لندن ونيويورك؟ نيويورك لديها تقليد طويل من العمل الخيري، مع الإعفاءات الضريبية للتبرعات للمؤسسات الثقافية. هذا موجود في لندن، لكن على نطاق أصغر.
في بريطانيا، يتم تمويل الفن الأكثر إثارة الذي يتحلى بالمجازفة، في جزء منه، من قبل الحكومة.
خذ المسرح. تمتلك لندن ثروة من المسارح المستقلة المدعومة من الدولة التي تنتج مسرحيات جديدة. Young Vic وRoyal Court وDonmar Warehouse هي من بين المسارح المفضلة لدي.
لتبرير دعمهم، يجب أن يكون الوصول إليها ميسورا؛ لذا فإن التذاكر رخيصة نسبيا (على سبيل المثال، من خمسة إلى 40 جنيها).
حتى في ويست إند الجزء التجاري الأغلى من مشهد لندن المسرحي يمكنك الجلوس في أرقى الأماكن بسعر تذكرة السينما.
في نيويورك، قد يكون من الصعب مشاهدة عرض على مسارح برودواي بأقل من 100 دولار.
ومن المرجح أن تكون مسرحية غنائية. ليست هناك مشكلة في المسرحيات الغنائية، أما في لندن، فهناك تنوع أكبر في العروض التي تقدمها المسارح، لربما بسبب نموذج التمويل.
أحد الأشياء التي نناقشها على البودكاست، هو عدم وضوح الحدود القديمة بين الفن الراقي والمتدني التي تسارعت في العقد الماضي وهي تنهار في بعض الأحيان.
مواضيع التلفزيون لم تعد بمستويات هابطة. حتى عندما تكون كذلك، فإنه يتم التعليق عليها بشكل دقيق من قبل نقاد ثقافيين ذوي عقلية راقية (مثل كلايف جيمس).
ما يلفت نظري أنه على الرغم من هوس البريطانيين بالأمور الراقية، إلا أن النشاطات التي تعد ثقافة راقية من الناحية التقليدية، هي أسهل من حيث الوصول إليها في بريطانيا، مما هي في الولايات المتحدة.
المتاحف مجانية، وتذاكر الباليه والأوبرا رخيصة بشكل مستغرب، خاصة إذا ما حجزت مبكرا. بطبيعة الحال ليست هذه هي الحواجز الوحيدة أمام الدخول، لكنها مجرد البداية.
أي جدال حول "لندن في مقابل نيويورك" سيكون بالضرورة ذاتيا.
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من FINANCIAL TIMES