FINANCIAL TIMES

هل يجلب البيرونيون الدواء إلى رجل بلاد الفضة المريض؟

هل يجلب البيرونيون الدواء إلى رجل بلاد الفضة المريض؟

هل يجلب البيرونيون الدواء إلى رجل بلاد الفضة المريض؟

سيرث المنتصر في انتخابات الأرجنتين الرئاسية، اقتصادا من أكثر الاقتصادات فوضوية في العالم، التي لا يمكن أن يحسد عليها.
يبلغ معدل التضخم 55 في المائة سنويا، والاقتصاد في حالة ركود عميق، والفقر في ارتفاع، ومليارات الدولارات هربت من البلاد، وانهار البيزو، والأرجنتين غير قادرة على سداد ديونها الخارجية البالغة 100 مليار دولار.
هذا يبدو قصة مألوفة للغاية في بلد كان يطمح إلى تحقيق مستويات الرخاء الأوروبية، في أوائل القرن الـ20، لكن خاب أمله باستمرار منذ ذلك الحين.
كان من المفترض أن تكون هذه المرة مختلفة: جاء موريسيو ماكري، سليل إحدى أكثر الأسر ثراء في البلاد، إلى السلطة قبل أربعة أعوام، ووعد بأن سياساته الصديقة للأسواق وحنكته في مجال الأعمال، ستضع الاقتصاد الأرجنتيني أخيرا، على الطريق الصحيح.
بعد سلسلة من الأخطاء الكبيرة التي أدت إلى إنقاذ آخر لصندوق النقد الدولي في العام الماضي، حقق ماكري ما اعتبرته قلة من الناس أمرا ممكنا، وفقا لما ذكره أحد كبار المديرين التنفيذيين في بنك دولي في بوينس آيرس أنه سيسلم الاقتصاد الأرجنتيني في حالة أسوأ ما كان عليه في السابق، عندما ورثه في عام 2015 من كريستينا فرنانديز دي كيرشنر، وهي امرأة يسارية تعرضت للانتقاد من قبل المستثمرين الدوليين، بسبب نوباتها المتكررة لتدخل الدولة.

نعم نستطيع على لسان ماكري
على نحو غير متوقع إلى حد ما في ظل الخلفية الاقتصادية الرهيبة، سيترشح ماكري لفترة ولاية ثانية. ليس هناك سوى قلة من الناس حتى من بين فريقه هو نفسه يتوقعون له الفوز.
في الانتخابات التمهيدية الوطنية في 11 آب (أغسطس) الماضي، التي تعد على نطاق واسع مقياسا جيدا للمشاعر، فاز المرشح الرئيس للمعارضة وهو السياسي البيروني ألبيرتو فرنانديز، الذي ينتمي إلى يسار الوسط، برفقة زميلته في الانتخابات فرنانديز دي كيرشنر.
حاول ماكري منذ ذلك الحين إعادة إطلاق حملته المتعثرة تحت شعار "# Sí se puede" (نعم نستطيع). لكن استطلاعات الرأي الأخيرة – التي لا تكون دائما موثوقة - تشير إلى أن تقدم فرنانديز قد اتسع.
تتنبأ الدفعة الأخيرة من الاستطلاعات التي نشرت قبل الانتخابات من قبل صحيفة كلارين، بأن البيرونيين سيفوزون بهامش ساحق يراوح بين 16 و22 نقطة مئوية، وهذا أكثر من كاف لتجنب جولة الإعادة.
ماكري نفسه يتعرض للهجوم من كلا الجانبين: ينتقده الليبراليون لعدم تصرفه بشكل أسرع في بداية ولايته لخفض ميزانية الأرجنتين المتضخمة، ولاعتماده المفرط على أسعار الفائدة لخفض التضخم في بلد مدمن على ارتفاع الأسعار بشكل منتظم. فيما يهاجمه اليساريون كرجل حكم لمصلحة الأغنياء، فحسب.
يقول لويس تونيلي، رئيس قسم العلوم السياسية في جامعة بوينس آيرس: "الاقتصاد الأرجنتيني يشبه إلى حد كبير رجلا مريضا ينزف بشدة في الشارع. ولا يوجد وقت لتشخيص حالته التي تحتاج إلى استدعاء سيارة إسعاف، والبدء في ضخ الدم فيه قبل أن ينهار تماما".

تهيب الأسواق عودة البيرونيين
انهارت ثقة السوق بعد نتيجة الانتخابات الأولية لشهر آب (أغسطس) الماضي، وذلك أساسا بسبب مخاوف المستثمرين من أن عودة البيرونيين إلى السلطة، ستعني تكرارا لسياسات الدولة الكبرى التدخلية، التي فضلها أولا الجنرال الشعبوي خوان بيرون في الخمسينيات.
التراجعات الكبيرة في البيزو والبورصة، أجبرتا ماكري على إعادة فرض الضوابط على أسعار الصرف، حتى ألغاها وسط ضجة كبيرة في بداية إدارته.
على أنه قد تم تهريب 12 مليار دولار حتى الآن من البلاد، منذ الانتخابات الأولية. ويقول الاقتصاديون إن الأرجنتين تظل عرضة للانهيار في السوق، ما لم يتحرك المنتصر في الانتخابات بسرعة.
يقول الرئيس التنفيذي لشركة أرجنتينية كبرى: "الأجندة ستظل هي نفسها بصرف النظر عمن سيفوز. يجب أن تظل ضوابط أسعار الصرف في مكانها، وتجب إعادة جدولة الديون وأن تظل السوق مغلقة في الوقت الحالي أمام الأرجنتين وشركاتها. ثم هناك إنفاق عام مرتفع وعجز في الموازنة وتضخم جامح: أي برنامج اقتصادي يجب أن يخفض التضخم".
الحاجة الأكثر إلحاحا هي إعادة التفاوض بشأن ديون الأرجنتين، التي ارتفعت في ظل إدارة ماكري، إلى حد كبير كنتيجة لبرنامج إنقاذ صندوق النقد الدولي البالغ 57 مليار دولار، الذي سعى إليه وسط أزمة العملة في العام الماضي.

الحل في صفقة مزدوجة
يقول إدواردو ليفي يياتي، عميد كلية الإدارة الحكومية في جامعة توركواتو دي تيلا في بوينس آيرس: "لا يمكن لحكومة جديدة أن تفعل شيئا يذكر دون اتفاق مع صندوق النقد الدولي، وإعادة جدولة ديون حاملي السندات. ودون هذه الصفقة المزدوجة، من الصعب جدا على الأرجنتين أن تنمو".
يقول ليفي إن المشكلة تكمن في أن الأرجنتين تحتاج إلى صفقة ديون بسرعة لتجنب نفاد الأموال، ومن غير المرجح أن يوافق دائنو القطاع الخاص على اتفاق ما لم يتم عرض شروط سخية عليهم.
ومع ذلك، يتأرجح الصندوق من مصاعب أكبر قرض له على الإطلاق، ومن المرجح أن يضغط على حاملي السندات لكي يتحملوا خسائر كبيرة لضمان عدم اتهامه بإقراض أموال عامة لإنقاذ المستثمرين من القطاع الخاص.
يقول ليفي: "إنها مشكلة معقدة للغاية مع مفجر بتوقيت زمني".
لم يقدم صندوق النقد الدولي مزيدا من المدفوعات على قرضه للأرجنتين منذ انهيار السوق في آب (أغسطس) الماضي.
وقالت مديرته الجديدة كريستالينا جورجيفا الأسبوع الماضي، إن الصندوق يظل "ملتزما تماما بالعمل مع الأرجنتين" و"مهتما جدا بأن يرى أن إطار السياسة سيظل في مكانه".
مع فوز فرنانديز المحتمل في الانتخابات، فإن الصندوق يستعد لمحادثات غير مريحة.
كان المرشح البيروني ينتقد بشدة صندوق النقد الدولي خلال حملته الانتخابية، مدعيا أنه ينبغي عليه أن يتقاسم مسؤولية محنة البلاد مع ماكري، ويتهمه بتسهيل هروب رأس المال بقرضه القياسي.
يقول ممول دولي قريب من المناقشات: "لا شيء قاله فرنانديز حتى الآن يشير إلى أنه لن يكون من الممكن التوصل إلى اتفاق".
هناك شعور أوسع بالقلق بين مجتمع الأعمال في بوينس آيرس، يتعلق بالسياسات التي قد يتبعها فرنانديز لإنعاش الاقتصاد المريض.

فرنانديز .. براجماتي أم حصان طروادة؟
بصفته رئيسا لمجلس الوزراء تحت الرئاسة البيرونية لنستور كيرشنر، خلال الفترة من 2003 إلى 2007، كان فرنانديز معروفا بأنه براجماتي معتدل.
استمر في المنصب عندما أصبحت كريستينا فرنانديز دي كيرشنر زوجة كيرشنر رئيسا، ليستقيل في تموز (يوليو) 2008، بسبب قرارها فرض ضرائب تصدير ثقيلة على مزارعي البلاد.
ظل فرنانديز منذ ذلك الحين بعيدا عن الأضواء، يمضي وقته بين العمل كمستشار سياسي ومحام ومحاضر جامعي، إلى أن أعلنت فرنانديز في أيار (مايو) الماضي، أنها ستترشح لمنصب نائب الرئيس على تذكرة واحدة معه (لا توجد صلة قرابة بين الإثنين). كان ينظر إلى هذه الخطوة على نطاق واسع على أنها ضربة معلم، ما سمح للسيدة فرنانديز بالعودة الجزئية إلى السلطة، على الرغم من ارتفاع معدلات رفض الناخبين، بعد أن ترأست البلاد في فترة من سوء الإدارة الاقتصادية وتفشي الفساد العام.
حتى الآن، نجحت الاستراتيجية. فرنانديز قاد حملة انتخابية في جميع أنحاء البلاد، بينما كانت مرشحته لمنصب نائب الرئيس غائبة إلى حد كبير، غالبا ما كانت في الخارج في كوبا لزيارة ابنة مريضة.
يقول محللون سياسيون إن هذه الديناميكية يمكن أن تتغير بعد فوز الزوج بالسلطة.
يقول تونيلي، العالم السياسي: "ألبيرتو فرنانديز هو حصان طروادة شفاف. يمكنك أن ترى مباشرة من خلاله: كريستينا فرنانديز دي كيرشنرقابعة في بطنه".
بيدرو سانشيز، سائق شاحنة في مدينة ريسيثنسيا الشمالية، مثل عديد من الناخبين، يدعم فرنانديز على مضض.
يقول سانشيز، الذي صوت لمصلحة ماكري في عام 2015، لأنه سئم الفساد والسلطوية المرتبطة بكيرشنر وزوجته: "لدي شكوكي بشأن ألبيرتو. بعد كل شيء، هو ينتمي إلى دائرة كيرشنر الداخلية".
وهو يشعر بأنه "غرر به" بسبب الوضع الاقتصادي المزري، لكنه غير متفائل بأن الرئيس الجديد سيفعل ما هو أفضل.
"لا بد أن حكم الأرجنتين صعب للغاية. إنه أمر لا يمكن التنبؤ به للغاية، والأرجنتينيون أناس معقدون بشكل رهيب - لكن هذا ما نحن عليه الآن".
يقول تونيلي إن أحد التحديات التي يواجهها فرنانديز بعد فوزه هو تحديد علاقته مع زميلته في الانتخابات. "كانا يكرهان بعضهما عندما استقال، ولا يزالان يكرهان بعضهما"، كما يقول.
"إن لديها معظم البنية السياسية للنزعة الكيرشنرية ومعظم الأصوات، وألبيرتو ليس لديه شيء. سيكون الأمر صعبا جدا بالنسبة إليه. لقد وقع بين صخرة صندوق النقد الدولي وسنديان النزعة الكيرشنرية".

ماذا عن عودة كريستينا كيرشنر؟
تختلف الآراء حول مدى نشاط فرنانديز كنائبة للرئيس، لكن هناك اتفاقا عاما على أنها تريد أن تنقذ نفسها من تسعة تحقيقات منفصلة في مجال الفساد، تعود إلى وقتها في السلطة.
يقول والتر ستيوبلويرث، وهو مسؤول في شركة استثمار كبيرة في بوينس آيرس: "أولويتها الأولى هي إخراج نفسها وعائلتها من مشكلة قانونية. والأولوية الأولى لألبيرتو فرنانديز هي إخفاء مشكلاتها. إنه يمثل أشياء كثيرة لكنه ليس غبيا. إنه ذكي للغاية، على الرغم من أنه ليس محاطا بأذكى الأشخاص".
إضافة إلى التوتر المحتمل مع رئيسته السابقة، يخشى المحللون من أن فرنانديز سيكافح من أجل توحيد تحالف متباين، يراوح بين الاقتصاديين التقليديين والناشطين الاجتماعيين المتطرفين، مع قليل من القواسم المشتركة، بصرف النظر عن الاهتمام برؤية نهاية حكومة ماكري.
تقول جيمينا بلانكو، رئيسة أبحاث الأمريكتين في شركة فيرسك الاستشارية في مجال المخاطر: "هذا التحالف لن يكون ائتلافا طويل الأمد. سينهار في نهاية المطاف بسبب تضارب الآراء السياسية والأيديولوجية داخله - السؤال ليس إذا كان سينهار، لكن متى سيكون ذلك؟"
يشعر كثيرون بالقلق إزاء مدى التأثير الذي يمكن أن تمارسه لا كامبورا - وهي حركة شبابية متشددة أسسها نجل فرنانديز: ماسيمو كيرشنر - ضمن إدارة بيرونية.


شوكة النقابات
لطالما كانت الحركة النقابية القوية في الأرجنتين شوكة في خاصرة الحكومات، حيث كانت تفيد الإضرابات الصناعية من أجل الحصول على أجور أعلى.
سيتعين على الرئيس الجديد أيضا التعامل مع مجموعات مثل اتحاد العمال للاقتصاد الشعبي، المستقل بشدة والقادر على تعبئة أعداد كبيرة من العمال العاطلين عن العمل الساخطين، ما يثير الخوف في قلب الطبقات المتوسطة في الأرجنتين، ما أدى في الآونة الأخيرة إلى احتجاجات صاخبة في مراكز التسوق الراقية.
هناك علامة استفهام حول كيف ستتطور شخصية ألبيرتو السياسية بمجرد أن يصبح قائدا.
يقول خوان جرابوا، المحامي المشاكس البالغ من العمر 36 عاما والقائد المباشر للاتحاد، الذي يتماشى مع تحالف فرنانديز البيروني.
"آمل أن يحاول تخفيف ألم الأكثر فقرا، وأن يحتوي على حيوية بعض المجموعات الاقتصادية التي تريد أرباحا سريعة وسهلة".
اقترح غرابوا أخيرا إصلاحا جذريا للأراضي تضمن مصادرة 50 ألف قطعة أرض، وحظر أي أرجنتيني من امتلاك أكثر من خمسة آلاف هكتار. فرنانديز نأى بنفسه عن المقترحات.
تجنب فرنانديز المقابلات أو عقد مؤتمرات صحافية مع وسائل الإعلام الدولية خلال حملته، ولم يرسم سوى الخطوط العريضة المبهمة لسياسته الاقتصادية، التي تركز على إعادة التفاوض بشأن الديون، وهي عهد وطني للسيطرة على التضخم وإحياء النمو، من خلال زيادة الاستهلاك المحلي.
ربما يكون قراره الأكثر أهمية على افتراض فوزه، اختيار وزير المالية.
سيقود المعين عملية إعادة التفاوض المعقدة بشأن الديون مع صندوق النقد الدولي وحاملي السندات الخاصة، إضافة إلى الاضطلاع بمهمة إنعاش الاقتصاد المتعثر.
الاسمان الأكثر ذكرا في دائرته الداخلية هما مستشاراه الاقتصاديان ماتياس كولاس وسيسيليا تودسكا، اللذان شغلا منصبين عاليين في البنك المركزي أثناء رئاسة فرنانديز، ولكنهما يفتقران إلى الخبرة.
ينظر إلى كل من مارتن ريدرادو، وجيليرمو نيلسن، وإيمانويل ألفاريز أجيس، وجميعهم من كبار المسؤولين الاقتصاديين خلال أعوام كيرشنر، على أنهم مرشحون "أكثر ملاءمة للسوق".
سيكون القرار الآخر هو مدى انفتاح الأرجنتين على بقية العالم أمام التجارة والاستثمار.
يقول مصدر مقرب من فرنانديز: "الانفتاح على العالم لا يعني أنك غبي. استسلم ماكري للعالم عاريا. نريد علاقة مع العالم تفيد الأرجنتين".

جوهر المشكلة .. العيش فوق القدرة
يقول جوستافو جروبوكوباتل، الرئيس التنفيذي لشركة للأعمال الزراعية، إن أحد أهم الأهداف بعد الانتخابات هو تحقيق انتقال هادئ. "في كل مرة تتغير الحكومة، هناك أزمة ثم يبدأ كل شيء من الصفر".
ويضيف تونيلي أن الأرجنتين "ليست اقتصادا متوقفا تماما مثل اقتصاد الانهيار".
هناك القليل من التفاؤل بشأن قدرة الحكومة الجديدة على معالجة المشكلات الاقتصادية العميقة الجذور.
يقول إدواردو كوستانتيني، وهو مطور عقاري من أصحاب المليارات وجامع للأعمال الفنية: "اقتصاد الأرجنتين ليس أكثر من كونه أحد أعراض ثقافتنا. الأمر ليس مسألة خطأ فني".
إن جوهر مشكلة الأرجنتين يتمثل في رفضها العيش في حدود إمكاناتها، مشيرا إلى أن البيزو فقد 98 في المائة من قيمته مقابل الدولار، في تخفيضات متتالية منذ عام 1991.
"نحن لا نقبل هنا المقايضات اللازمة لخفض التضخم"، ويقول مازحا إن التقشف في الأرجنتين "كلمة محظورة".
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من FINANCIAL TIMES