FINANCIAL TIMES

من جديد .. ماذا تحطم من أحلام عام 1989؟

من جديد .. ماذا تحطم من أحلام عام 1989؟

من جديد .. ماذا تحطم من أحلام عام 1989؟

من جديد .. ماذا تحطم من أحلام عام 1989؟

مثل أعوام 1776 و1789 و1917، كان عام 1989 واحدا من تلك اللحظات النادرة التي تمثل نقطة تحول حاسمة في تاريخ البشرية.
على الأقل هكذا بدا الأمر في ذلك الوقت، خاصة بالنسبة إلى الذين قضوا عام 1989، في خضم الثورات المؤيدة للديمقراطية في وسط وشرق أوروبا الشيوعية.
لم يظهر الأمر كثيرا كمعجزة أن أنظمة الحزب الواحد القمعية في المنطقة انهارت من دون إراقة نقطة دم واحدة – باستثناء رومانيا – ومن دون تدخل من الاتحاد السوفياتي، سيد وحاكم المنطقة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
الآن وأخيرا، يمكن إعادة توحيد التشيكيين والمجريين والبولنديين مع البريطانيين والفرنسيين والألمان في أوروبا كاملة وحرة.
بالطبع، كان هناك جانب مظلم من عام 1989. في الرابع من حزيران (يونيو)، وهو اليوم الذي اكتسحت فيه حركة تضامن النقابية الوطنية في بولندا، الحزب الشيوعي في انتخابات شبه حرة، بصورة ساحقة، لم تتردد القوات المسلحة الصينية في ذبح حشود من الطلاب المتظاهرين في ميدان تيانان مين في بكين.
الحزب الشيوعي الحاكم في الصين لم يعرب أبدا عن أسفه لهذه المذبحة، لكن حتى فيما يتعلق بالصين، فإن التوقع المتفائل لكثير من القادة الغربيين وصناع الرأي كان أن سعي الدولة العازمة على التحديث، القائم جزئيا على السوق، سيؤدي في النهاية إلى تحقيق كثير من التقدم الاجتماعي والاقتصادي الذي قد تتخلى عنه الاستبدادية لشكل من أشكال الديمقراطية.
بعد مرور 30 عاما، يظهر عام 1989 بألوان أقل وردية. تحديث الصين لم يفعل شيئا لتخفيف سمات الدولة الاستبدادية. وروسيا، التي ظهرت على طريق واعد نحو الحرية في الأعوام الأخيرة من الاتحاد السوفياتي، دولة فاسدة استبدادية.
تم دمج معظم البلدان في أوروبا الوسطى والشرقية في الاتحاد الأوروبي وحلف النيتو، لكن المنطقة تزخر بالقوميين والوطنيين والشعبويين، الذين لديهم القليل من القيم المشتركة مع الثوار الليبراليين المثقفين من عام 1989.
ربما الأمر الأكثر إثارة للقلق أن الغرب نفسه يبدو في ورطة عميقة. الرئيس دونالد ترمب في الولايات المتحدة، على طرف نقيض مع الديمقراطية وآفاقها الدولية. الاتحاد الأوروبي يكافح للسيطرة على أحداث داخل حدوده وخارجها.
إضافة إلى ذلك، النظام المالي والاقتصادي الغربي لم يعد يفي بوعوده لملايين المواطنين.
في آب (أغسطس) الماضي، حذر مارك كارني، محافظ بنك إنجلترا، في اجتماع لرؤساء البنوك المركزية في جاكسون هول، في وايومينج، من أن النظام الحالي "لا يجعل تحقيق استقرار الأسعار والاستقرار المالي أصعب فحسب، بل يشجع أيضا السياسات الحمائية والشعبوية. الحالات السابقة لأسعار الفائدة المنخفضة جدا، كانت تميل إلى التزامن مع أحداث شديدة الخطورة مثل الحروب والأزمات المالية، والاختلالات في النظام النقدي".
الكتب الأربعة التي هي قيد المراجعة في هذا المقال، التي أوصي بكل منها بشدة، تراوح بين تحليل نورمان نيمارك المفصل بخبرة لسياسات ستالين ما بعد الحرب العالمية الثانية في أوروبا، إلى محاولة سايمون ريد هنري الطموحة بشكل كبير لرسم صورة موضوعية لديمقراطيات العالم من أوائل السبعينيات إلى الوقت الحاضر.
كريستينا سبور تعيد بناء أحداث حقبة 1989 - 1992 بشكل جميل، على نحو يذكرنا بأهمية القيادة السياسية الذكية والمسؤولة في اللحظات الحاسمة من التاريخ، بينما يقدم إيفان كراستيف وستيفن هولمز شرحا صادقا لا لبس فيه لما حدث بشكل خاطئ في الغرب – والشرق – منذ عام 1989.
كراستيف، الباحث المولود في بلغاريا الذي يعمل في معهد العلوم الإنسانية في فيينا، وهولمز، الأستاذ في كلية الحقوق في جامعة نيويورك، يجادلان في كتاب The Light that Failed (النور الذي أخفق) أن الليبرالية الغربية أصبحت غارقة في التهاون والغرور بعد عام 1989، ما أدى إلى رد فعل عنيف في الديمقراطيات الجديدة في الشرق وفي الغرب نفسه.
حيث كتبا: "انتهت الليبرالية بكونها ضحية نجاحها الباهر في الحرب الباردة. وقعت الليبرالية في حب نفسها وفقدت طريقها".
بنى المؤلفان حجة قوية من خلال التركيز على أربع مناطق: أوروبا الوسطى والشرقية، وروسيا، والولايات المتحدة والصين.
بحلول منتصف العقد الثاني من الألفية، كانت دول أوروبا الوسطى والشرقية أكثر ثراء بشكل مؤكد، ووصل إلى المستقبل الرأسمالي الذي وعد به في عام 1989 – إلا أن "فوائده وأعباءه كانت موزعة بشكل غير متساو، بل وحتى طائش".
الانخفاض الحاد في عدد السكان في المنطقة خلال الأعوام الـ30 الماضية، أدى إلى تفاقم المشكلة لأن هجرة الشباب الحاصلين على تعليم جيد تجعل من الصعب أكثر على الأحزاب الليبرالية الفوز في الانتخابات.
المؤلفان ليسا من المعجبين بفيكتور أوربان، رئيس الوزراء غير الليبرالي في المجر – "لقد حمى من التدقيق العام تلاعبه في الانتخابات ومستوياته الملحمية من الفساد الداخلي – لكنهما يحذران من أن هناك "سببا ضئيلا للثقة بأن مصيره هو الفشل".
المعارضة المناهضة لأوربان فازت بالانتخابات المحلية في بودابست ومدن أخرى في عطلة نهاية الأسبوع الماضي، إلا أنه أعيد انتخاب حزب القانون والعدالة الحاكم في بولندا لتولي السلطة بشكل مريح في الانتخابات البرلمانية الوطنية.
النقطة المهمة هي أنه بعد عام 1989، شعر كثير من سكان أوروبا الوسطى والشرقية بالاستياء من الطلب منهم القيام بنسخ الممارسات والقيم الغربية، كما لو كانوا مجرد تلاميذ في الصف.
من الناحية النظرية، يجادل المؤلفان بأن رد الفعل القومي لم يأت فحسب، لأن النموذج الغربي شوه سمعته في الأزمة المالية لعام 2008، بل لأنه لم يكن من المعقول أبدا توقع تنصل سكان أوروبا الوسطى والشرقية "بصورة جذرية عن القومية العِرقية" على غرار ما حصل في ألمانيا الغربية بعد عام 1945.
أما بالنسبة إلى روسيا، فكتب كراستيف وهولمز في جملة واحدة لا تنسى أن النخبة السياسية في مرحلة ما بعد الشيوعية في موسكو: "وجدت تزييف الديمقراطية أمرا طبيعيا تماما، لأنها كانت تزيف الشيوعية، طوال ما لا يقل عن عقدين من الزمن قبل عام 1991".
الشعبويون في الولايات المتحدة وأوروبا الشرقية يعربون بالمثل عن ازدرائهم لنخب المؤسسة، فضلا عن الكراهية والخوف من المهاجرين.
مع ذلك، ترمب يختلف عن أوربان وغيره من الشعبويين الأوروبيين في أنه "معاد للثقافة إلى حد الأمية"، كما كتب كراستيف وهولمز.
حماسة الرأي العام الأمريكي لإعادة تشكيل العالم في صورته بعد عام 1989، لا بد أن تتلاشى في الوقت الذي منحت فيه الهيمنة العالمية الأمريكية المجال لصعود الصين، وعالما متعدد الأقطاب. مع ذلك، ترمب هو "أول رئيس في تاريخ أمريكا يلغي القناعة بأن أمريكا ترمز إلى فكرة قابلة للتعلم".
حاول المؤلفان جاهدين عدم الانتهاء بملاحظة قاتمة. حيث يرفضان فكرة أن "الاستبدادية الرجعية الوطنية سترث الأرض"، ويشيران إلى أن "الليبرالية المنتقدة، بعد أن تعافت من تطلعاتها إلى الهيمنة العالمية، تبقى الفكرة السياسية في الداخل في القرن الـ21".
مع ذلك، سيستغرق الأمر كثيرا من العمل الشاق والانتقاد الذاتي لتصحيح أخطاء الأعوام الـ30 الماضية.
في كتاب Post Wall, Post Square (ما بعد الجدار، ما بعد الميدان)، سبور تردد أفكار كراستيف وهولمز في الجدال بأن صناع السياسة في الغرب اعتبروا الأمر مفروغا منه في الأعوام 1989 - 1992 وأن الديمقراطية الليبرالية هي موجة المستقبل، وأن العالم كان يتقارب مع القيم الأمريكية. باعتبارها أستاذة تاريخ في كلية لندن للاقتصاد وجامعة جونز هوبكنز، تستخدم سبور مادة تم رفع السرية عنها في الأرشيفات البريطانية والفرنسية والألمانية والروسية والأمريكية، لوصف كيف كافح القادة السياسيون موجات التغيير الثورية التي تندفع حولهم.
"عند النظر إلى الأحداث بعد فترة، التكتل السوفياتي بالكامل يبدو وكأنه متزعزع". في بداية عام 1989، تنبأ عدد قليل من الأشخاص أنه سينهار بالكامل بحلول نهاية العام.
الأمر الحاسم لهذه النتيجة كان ضبط النفس من قبل ميخائيل جورباتشيف، الزعيم السوفياتي الإصلاحي.
يا ليتنا عرفنا في ذلك الوقت أنه وصف إريك هونيكر، الزعيم الشيوعي الرجعي لألمانيا الشرقية بـ"الحثالة"، وأنه رفض دكتاتورية نيكولاي تشاوشيسكو الرومانية لكونها "ظاهرة بدائية".
كما تثني سبور أيضا على "قوة الشعب" في أوروبا الوسطى والشرقية بشكل مستحق. لا تذكر الذين ملأوا شوارع برلين الشرقية وبراغ في مظاهرات سلمية فحسب، بل أيضا الأفراد الشجعان مثل ليخ فاونسا، الكهربائي المتواضع الذكي سياسيا من جدانسك، الذي يرمز إلى انتقال بولندا غير العنيف إلى الديمقراطية. مع ذلك، إذا كان هناك ثلاثة أبطال في كتاب سبور، فهم جورباتشوف والرئيس الأمريكي السابق جورج بوش الأب والمستشار الألماني السابق هيلموت كول. والتفاوض على نهاية الحرب الباردة وإعادة توحيد ألمانيا وزوال الاتحاد السوفياتي، كل ذلك تطلب مؤهلات رجال دولة رفيعي المستوى، وهذا الثلاثي قدم ذلك.
أحد موضوعات كتاب سبور – الذي عده القادة الغربيون ضروريا لترسيخ الديمقراطيات الجديدة في الشرق، في اقتصاد السوق الحرة – يشكل حجة أساسية هو كتاب ريد هنري Empire of Democracy (إمبراطورية الديمقراطية).
أصول هذا الإيمان في الليبرالية الاقتصادية تكمن في الأساليب التي اختارتها الحكومات الغربية، للتغلب على الأزمات المتعددة التي عانتها بلادها في أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات، كما كتب هنري.
باختصار، الغرب حارب التضخم وتقلب العملة وفقدان نمو الإنتاجية من خلال فتح اقتصادات لقوى السوق بطريقة زادت الثروة، لكنها أيضا حولت بشكل كبير العقد الاجتماعي بين الحكومات ورأس المال والعمالة الذي كان قد حدد الديمقراطيات الكبيرة منذ عام 1945.
كتب ريد هنري، "في الضبابية الكبيرة التي سببت زوال الشيوعية، كان أمرا مفروغا منه أن الرأسمالية كانت تسير بشكل جيد في الغرب وتحمل الديمقراطية معها".
من وجهة نظر المؤلف، كانت التوترات الخطيرة تتراكم. من ناحية، كان المواطنون يشعرون بالانفصال عن أنظمتهم الديمقراطية، بسبب ازدياد عدم المساواة الاقتصادية، خاصة في الولايات المتحدة، والإجماع السياسي المؤيد للسوق الذي بدا أنه يستبعد التغيير الحقيقي، ونمو الوكالات شبه الحكومية غير الخاضعة للمساءلة.
تم الخلط بين الهجرة المختلطة واسعة النطاق بعد هجمات 11/9 على الولايات المتحدة وبين الحروب على الإرهاب التي لا يمكن الفوز بها في أفغانستان، بالذات.
من ناحية أخرى "سمح للقطاع المالي بالنمو إلى ما وراء كل الحدود، بينما أزالت الدولة عن نفسها تدريجيا عبء الأدوات التنظيمية التي ستكون ضرورية في حال واجه اقتصاد الكازينو، مثل هذه المتاعب".
كانت النتيجة هي انهيار عام 2008. كما أشار مارك كارني، فإن التعافي من تلك الصدمة لم يعمل بالتأكيد على تحقيق استقرار النظام.
هناك كثير مما يثير الإعجاب بكتاب ريد هنري، لكن يجب على المرء أن يسأل عن التحقق منه، لأن صفحاته التي تزيد على 700 صفحة، مع الأسف، مليئة بالأخطاء الأساسية.
من بينها: مكان ولادة جورباتشوف (جنوبي روسيا، وليس أوكرانيا)؛ رحيل كول من المستشارية (عام 1998، ليس عام 1997)؛ تصويت استفتاء عام 1992 ضد معاهدة ماستريخت في الاتحاد الأوروبي (في الدنمارك، ليس في هولندا)؛ ومؤسس رابطة شمال إيطاليا (أمبرتو بوسي، ليس أوسي).
نيمارك ليس لديه مضارع كباحث في الستالينية والاتحاد السوفيتي وأوروبا في القرن الـ20، وكتابه الأخير Stalin and the Fate of Europe (ستالين ومصير أوروبا) واحد من أكثر أعماله الأصلية والمثيرة للاهتمام.
يختار سبع دراسات لتوضيح تعقيد أهداف ستالين في أوروبا.
وهذه تشمل جزيرة بورنهولم الدنماركية (التي احتلتها لفترة وجيزة القوات السوفياتية في عام 1945-1946)، وألبانيا، فنلندا، والانتخابات الإيطالية عام 1948، والحصار السوفياتي لبرلين، وبولندا حتى عام 1949 والنمسا.
في كل حالة، يصل نيمارك إلى استنتاج مفاجئ، لكنه مقنع: على الرغم من تقدم ظل الستالينية في جميع أنحاء أوروبا الشرقية، إلا أن "تفويض الأوروبيين كان مهما ومهما جدا".
الأحزاب الديمقراطية الاجتماعية القوية في أوروبا الغربية، والسياسيون الشجعان مثل يوهو باسيكيفي في فنلندا، وإيرنست رويتر في برلين الغربية، وكارل رينر في النمسا، نجحوا في إبعاد الشيوعية. حتى الشيوعيين المتشددين مثل أنور خوجة من ألبانيا، وفلاديسلاف جومولكا من بولندا، جاهدا للحفاظ على أكبر قدر ممكن من السيادية لبلدانهم.
يقول نيمارك إن ستالين لم يكن ينوي إثارة الثورة في أوروبا الغربية، لكن الحرب الباردة التي يتحمل كثيرا من مسؤوليتها حفرت إرثها في الثقافات المؤسسية، في واشنطن وموسكو حتى هذا اليوم.
عند دمج هذا مع التفكك السياسي في الديمقراطيات الأوروبية، وأوجه القصور في الاتحاد الأوروبي، ونقاط ضعف منطقة اليورو، وبريكست، فليس من الصعب معرفة السبب في أن أوروبا، البعيدة عن كونها منارة الوعد الذي تصورته لنفسها في عام 1989، قد تولّد مرة أخرى كثيرا من عدم الاستقرار في الأعوام المقبلة.
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من FINANCIAL TIMES