FINANCIAL TIMES

انتخابات بولندا .. ثورة مضادة أم استعادة لدرب النماء؟

انتخابات بولندا .. ثورة مضادة أم استعادة لدرب النماء؟

انتخابات بولندا .. ثورة مضادة أم استعادة لدرب النماء؟

لمدة 15 عاما عمل أنتوني بيروتا في مانشستر، وهو ضمن أكثر من مليوني بولندي تركوا بلدهم أوائل العقد الأول من الألفية، بحثا عن حياة أفضل في الخارج.
إلا أنه قرر عام 2017 العودة إلى بلده، مقتنعا بأن اقتصاد بلده الواقع في أوروبا الوسطى، بات يتحسن في عهد حزب القانون والعدالة الحاكم. لذاك قرر أن الوقت قد حان للعودة إلى الوطن.
"بمجرد أن أصبحت هناك حكومة طبيعية، عدت" كما يقول، وهو يراقب بريبة أحد السياسيين من الأحزاب التي سبقت حزب القانون والعدالة والمنافس الرئيس هو الائتلاف المدني، يجمع الناخبين في ميدان السوق في فلودافا، وهي بلدة في المنطقة الشرقية الأكثر فقرا في بولندا.
"أجبرت على المغادرة لأنه كان مستحيلا العيش في بولندا من ذي قبل لكن الأمر الآن مختلف تماما. استقرت الأمور. الحياة جيدة جدا. وهي فوق ذلك تستمر في التحسن".
ويضيف، مشيرا إلى زوجين شابين يدفعان عربات الأطفال في شارع مجاور: "تحدث إلى العائلات. اسألهم: هل يريدون عودة الائتلاف المدني؟ سنبعدهم بالقوة! سيكون ذاك هو الرأي".
يوم الأحد الماضي توجه البولنديون إلى صناديق الاقتراع فيما وصفه السياسيون على كلا جانبي الانقسام الحزبي المرير، بأنه أهم الانتخابات منذ أن أطاحت بلادهم بالشيوعية عام 1989، التقدم الاقتصادي الذي جذب بيروتا، قد يتبين تماما أنه الورقة الرابحة لحزب القانون والعدالة.
على مدار العقود الثلاثة الماضية شهدت بولندا مرحلة انتقالية اجتماعية وسياسية واقتصادية مذهلة.
في غضون جيل، حولت بولندا نفسها من دولة تابعة للاتحاد السوفياتي، وذات اقتصاد فاشل مخطط مركزيا إلى ديمقراطية مستقلة ذات نمو متصاعد. في عام 1999، انضمت إلى حلف النيتو.
في عام 2004، انضمت إلى الاتحاد الأوروبي، وفي الأعوام التي تلت افترض كثيرون أن بولندا تسير في اتجاه واحد نحو تقارب اقتصادي وسياسي أعمق مع حلفائها في الغرب.
الأعوام الأربعة الماضية تحدت هذا الافتراض.
منذ وصوله إلى السلطة عام 2015، رفض حزب القانون والعدالة القومي المحافظ تكامل الاتحاد الأوروبي، والقيم الاجتماعية الليبرالية للتكتل.
لدهشة كثيرين في بروكسل، ومزيد في الداخل، أثار الأمر العنف عبر الضوابط والتوازنات، من خلال إخضاع القضاة للساسة وتحويل وسائل الإعلام الحكومية إلى مؤيدين له.
يخشى كثير من الليبراليين أن التصويت هو الفرصة الأخيرة لمنع البلاد من التراجع إلى العالم الآخر شبه الاستبدادي، الذي أوجده فيكتور أوربان في المجر.
بالنسبة إلى ناخبي حزب القانون والعدالة، هناك شيء مختلف تماما على المحك.
خلال الأعوام الأربعة الماضية، شهد كثيرون تحسنا في حياتهم اليومية من خلال مجموعة سياسات الرعاية الاجتماعية السخية التي أدخلها حزب القانون والعدالة.
آخرون فرحوا بترويجه للقيم المحافظة الكاثوليكية.
عندما صوتوا في الانتخابات البرلمانية يوم الأحد الماضي، فعلوا ذلك من أجل الحفاظ على تلك السياسات.
واستطلاعات الرأي تشير إلى تقدم بأكثر من 15 نقطة، من المرجح أن يخرج الحزب منتصرا.
للوهلة الأولى، قد يبدو توقيت نجاح حزب القانون والعدالة مفاجئا، في حين أن الحركات الشعبوية في الغرب، من الولايات المتحدة إلى بريطانيا، غالبا ما تكسب شعبية في أوقات الركود الاقتصادي، إلا أن حزب القانون والعدالة، الذي أسسه وقاده المتشدد اليميني ياروسلاف كازينسكي، برز بينما كانت بولندا تتمتع بواحدة من أطول فترات الازدهار في تاريخها.
منذ أن أدخل ليزيك بالسيروفيتش مجموعة من الإصلاحات ذات الأهمية الكبيرة يطلق عليها اسم "العلاج بالصدمة" وبدأت رحلة بولندا إلى الرأسمالية عام 1989، وزاد حجم اقتصاد البلاد ثلاثة أضعاف.
ولم تشهد ركودا منذ عام 1992، وهي مسيرة لم تتفوق فيها إلا النمسا. استنادا إلى معادل القوة الشرائية، أصبح البولنديون الآن أكثر ثراء من اليونانيين ويقتربون أكثر من البرتغاليين. النمو في الناتج المحلي الإجمالي الذي تجاوز 5 في المائة منذ عام 2018، كان من بين الأعلى في العالم المتقدم في الأعوام الأخيرة.
تقول بيتا جافورسيك، كبيرة الاقتصاديين في البنك الأوروبي للتعمير والتنمية: "بولندا هي المثال على مرحلة انتقالية ناجحة. في غضون 30 عاما انتقلت البلاد من وضع نقص في كل شيء، بشكل أساس: رفوف فارغة في المتاجر، حيث تم تقنين كثير من المنتجات من اللحوم والزبدة والسجائر إلى الشوكولاتة إلى الانضمام إلى نادي البلدان الغنية".
إصلاحات بالسيروفيتش مهدت الطريقة لنجاح مذهل في الاقتصاد الكلي لكن انتقال بولندا الصعب والمتقلب أدى أيضا إلى إيجاد الخاسرين. فقد كثيرون وظائفهم بسبب إغلاق المزارع المملوكة للدولة، والشركات المملوكة للدولة توقفت عن العمل في مواجهة المنافسة الغربية. على الرغم من أن البولنديين أصبحوا أكثر ثراء، إلا أن عدم المساواة بدأ يرتفع.
تقول جافورسيك، "كثير من السخط في البلدان التي شهدت مرحلة انتقالية جاء من التغيرات في الوضع النسبي.
وهذه التغييرات غالبا ما تتفاقم بسبب التغيير في الاتجاهات العالمية والعولمة والتقدم التكنولوجي".
حزب المنبر المدني اليميني الوسط الذي كان يتبع له دونالد توسك رئيس الوزراء السابق، حكم بولندا من عام 2007 حتى عام 2015، يشكل العمود الفقري للائتلاف المدني اليوم، شهدت البلاد تخوضا بنجاح الأزمة المالية وشرع في برنامج كبير لتحسين البنية التحتية.
إلا أن كثيرا من البولنديين، خاصة في المناطق الريفية، والشرق الأكثر فقرا، شعروا أن فوائد الطفرة التي شهدتها بولندا قد تجاوزتهم.
عندما ترشح حزب القانون والعدالة ضد حزب المنبر المدني عام 2015، قطع وعودا بإحداث زيادة كبيرة في الإنفاق على الرعاية الاجتماعية، ضمن البنود الرئيسة لحملته.
السياسة الرئيسة كانت برنامجا لاستحقاقات الأطفال الذي أطلق عليه اسم 500+، وتعهد بدفع 500 زلوتي شهريا لكل طفل ثان ولاحق، وهو مبلغ يمكن أن يوفر للعائلات الأكبر ما يعادل راتبا آخر.
كان خبراء الاقتصاد متشككين من قدرته على تحمل ذلك، لكن حتى الآن كانت الحكومة قادرة على تمويل المخطط، بفضل الاقتصاد المزدهر وقمع الاحتيال على ضريبة القيمة المضافة، هذا العام تم توسيعه ليشمل جميع الأطفال.
تقول إلزبيتا كوترمانوفيتش، وهي متقاعدة تشارك في تجمع حزب القانون والعدالة في مدينة بلوك الوسطية الشهر الماضي: "تغير الوضع تماما لكثير من العائلات. أنا أسافر كثيرا في بولندا، وعندما تذهب إلى المنتجعات، خاصة خلال العطلات، ترى عائلات لم تكن تسمح لنفسها أبدا بمثل هذه الرحلة، لولا هذا البرنامج".
أهمية السياسة أنها لم تكن تتعلق فقط بإعادة توزيع النقود فهي تتعلق أيضا "بإعادة توزيع المكانة" إلى الذين شعروا بالإهمال على حد تعبير لودفيك دورن الذي كان فيما مضى أقرب حلفاء كازينسكي.
يقول: "من الواضح أن أول برنامج 500+ كان يتمتع بعنصر توفير الوسائل المالية، السلع المادية.
كما كان يتمتع أيضا بعنصر مهم للغاية يتعلق بالكرامة ... لإعادة توزيع الاحترام الاجتماعي من قبل الدولة. الرسالة كانت: حزب المنبر المدني لدونالد توسك لم يستمع إليكم، لأنهم لم يعترفوا بكم ويحترموكم. بينما نحن نفعل".
يبدو حزب القانون والعدالة جذابا ليس فقط للبولنديين الذين يشعرون بالخسارة، كما تقول أجاتا شتشنيك، المعلقة من بوابة إخبارية على الإنترنت إنالناس يشعرون أن سعي البلاد للتكامل الأوروبي، قد ترك تقاليدها وهويتها في خطر أن تمحى مع زحف القيم المستوردة.
تقول: "لعدة أعوام، كان الناس في بولندا يحاولون أن يكونوا مثل الناس من الغرب. الآن أعتقد أن مزيدا منهم يشعرون أنه لا بأس من قول: نحن بولنديون ... نحن نشبه مجتمعنا، منطقتنا ... هذا شيء لا تحصل عليه المعارضة".
عزز حزب القانون والعدالة سياساته للرعاية الاجتماعية بهجمات مستمرة على حقوق غير الأسوياء التي يصورها بأنها تهديد أجنبي للقيم العائلية البولندية التقليدية، بنفس طريقة رفض المهاجرين ناهيك عن دمجهم في المجتمع، كما حدث في 2015.
قال كازينسكي في مؤتمر في كروسنو في عطلة نهاية الأسبوع الماضي: "هذا هجوم على العائلة، والعائلة هي ... أساس الحضارة البولندية".
"الرحلة من الشراكات المدنية عبر زيجات غير سوية إلى تبني الأطفال، ما تتبناه المعارضة بالتأكيد. سيأتون بها، لتدمير ثقافتنا. لتدمير ما هو أساس حياتنا، وجودنا وبقائنا. لأن العائلة هي أيضا أساس بقائنا، ليس فقط بالمعنى البيولوجي ... بل أيضا بالمعنى الثقافي".
تعزز موقف الحزب الحاكم من ضعف المعارضة.
تعرض حزب القانون والعدالة لسلسلة من الفضائح تراوح بين استخدام الطائرات الحكومية من قبل أفراد عائلة مسؤول كبير، إلى مزاعم عن مشاركة نائب وزير العدل في حملة تشهير ضد القضاة، الذين انتقدوا الإصلاحات. بيد أن المعارضة لم تتمكن من الاستفادة.
لعل السبب هو دعم وسائل الإعلام الحكومية الكبير للحكومة وهجماتها المستمرة على المعارضة، فضلا عن دعم الكنيسة لحزب القانون والعدالة. مشكلات الائتلاف المدني أيضا هي أقرب إلى النزاعات الداخلية، حيث تفتقر إلى زعيم يتمتع بشخصية جذابة.
كافح الحزب لتجديد نفسه بعد الهزيمة عام 2015. وفي مواجهة ظهور ائتلاف يساري جديد، يبدو غير متأكد مما إذا كان سيحاول هزيمة حزب القانون والعدالة من خلال استمالة المحافظين المعتدلين، أو بدلا من ذلك من خلال محاولة تعزيز قوى الليبرالية في بولندا.
تقول شيشنيك: "سئم الناس فعلا من حزب المنبر المدني. بعد ثمانية أعوام، أراد الناس التغيير. وهذا الحزب لم يكن يتغير. دونالد توسك، سياسي الحزب الأكثر شعبية، غادر وذهب للخارج إلى المجلس الأوروبي. والأشخاص يتصورون سياسييه كبارا في السن ومتعبين وموضع سخرية".
في كثير من الأحيان، أظهر منتقدو حزب القانون والعدالة الازدراء وعدم الفهم للذين دعموا الحزب، حيث قال آدم ميشنيك، المنشق السابق ورئيس تحرير صحيفة جازيتا فيبورشا الليبرالية عام 2016، عندما سئل عن سبب تصويت البولنديين لمصلحة حزب القانون والعدالة: "في بعض الأحيان، تنسى المرأة الجميلة نفسها، لكنني أعتقد أن بولندا ستستفيق".
بعد مرور ثلاثة أعوام، يبدو حزب القانون والعدالة متأكدا من أنه سيظهر كأكبر حزب في الانتخابات الأخيرة.
مع ذلك، النظام الانتخابي في بولندا يعني أنه اعتمد على عدد الأحزاب التي ستصل إلى البرلمان، ولا يزال يمكن أن ينتهي به الأمر إلى أن يفتقر إلى الأغلبية.
هذا يترك احتمالا ضئيلا أن ائتلافا واسعا -رغم أنه غير مستقر- من الأحزاب المعارضة، يمكن أن يجتمع لمحاولة تشكيل حكومة. ستكون التعبئة أساسية لجميع الأحزاب، بدأ كازينسكي بإنهاء المسيرات من خلال دعوة مؤيديه ليس للتصويت فحسب، بل لإقناع أصدقائهم بالقيام بذلك أيضا. يقول أليكس شيشربيك، أستاذ السياسة في جامعة ساسكس: "هذا ليس أمرا مفروغا منه. من المهم فعلا معرفة ما إذا كان حزب القانون والعدالة سيحصل على أغلبية شاملة. لأنه إن لم يفعل، فهناك فرصة خطيرة لتشكيل حكومة بديلة".
مع ذلك، النتيجة الأكثر احتمالا تبقى أن كازينسكي البالغ من العمر 70 عاما سيمنح الفرصة لمواصلة حملته الشديدة المستمرة لإعادة تشكيل بولندا.
تقول آنا ماترسكا سوسنوفسكا، أستاذة العلوم السياسية في جامعة وارسو، "ربما يكون الأمر مبالغا فيه قليلا، لكن عندما ننظر إلى المجر برئاسة أوربان، فإننا نسير في الاتجاه نفسه".
"دولة مركزية توفر الرعاية منذ الولادة ... إلى التقاعد، إلا أنها أيضا دولة تسيطر على كيف من المفترض أن تعيش حياتك؟ مع من المفترض أن تعيش؟ وكيف ينبغي أن يكون نموذج عائلتك؟"

ائتلاف جديد يبشر بعودة اليسار

في انتخابات 2015، انقسم اليسار البولندي إلى معسكرين: لم يصل ممثل لأي منهما إلى البرلمان. لم يتم تمثيل اليساريين في مجلس النواب، للمرة الأولى منذ عودة البلاد إلى الديمقراطية. بعد مرور أربعة أعوام، انضمت المجموعات اليسارية الرئيسة الثلاث في بولندا معا، ومن المقرر أن تعود إلى المعركة البرلمانية. تشير استطلاعات الرأي إلى أن ائتلاف ليفيكا الجديد، يمكن أن يفوز بنحو 13 في المائة من الأصوات، ما قد يجعله ثالث أكبر مجموعة في البرلمان.فشل اليسار عام 2015 كانت له عواقب بعيدة المدى، ما سمح لحزب القانون والعدالة بالحصول على أغلبية برلمانية، على الرغم من الفوز بنسبة 38 في المائة فقط من الأصوات. من المحتمل أن يكون لعودته تأثير كبير في الخطاب السياسي في بولندا، وذلك وفقا لما قاله ريزارد لوسين من “بوليتيكا إنسايت”.يقول: “خلال الأعوام الأربعة الماضية، كان لدينا برلمان دون يسار. الآن ستكون لدينا قوة سياسية لن تخاف الحديث عن حقوق ناشزة مثل الإجهاض، بل وعن الفصل بين الكنيسة والدولة” في دولة محافظة.وضع الائتلاف اليساري القضايا الاجتماعية والبيئية في صلب جدول أعماله. فضلا عن تخفيف قوانين الإجهاض الصارمة في بولندا، فإنه يدفع باتجاه المساواة في الأجر للنساء، وزيادة في الحد الأدنى للأجور والشراكات المدنية. ويريد أن تأتي أغلب الطاقة البولندية من مصادر الطاقة المتجددة بحلول عام 2035. السؤال الكبير هو إلى أي مدى سيكون الائتلاف مستقرا؟ يجمع ائتلاف ليفيكا ثلاثة أحزاب ذات خلفيات مختلفة جدا: تحالف اليسار الديمقراطي، الذي سيطر على بولندا أواخر التسعينيات وأوائل العقد الأول من الألفية، قبل أن يتعرض لفضائح؛ وحزب رازيم، وهو مجموعة أسست عام 2015 كمنافس لتحالف اليسار الديمقراطي؛ وحزب ويوسنا، الحزب الذي أسس في شباط (فبراير) الماضي، من قبل روبرت بيدرون، العمدة السابق، الذي سرعان ما انهار بعد نتيجة مخيبة للآمال في الانتخابات الأوروبية.
يقول لوزين: “أعتقد أن من المرجح أن يندمج حزب ويوسنا مع تحالف اليسار الديمقراطي. السؤال بعد ذلك هو عن حزب رازيم، ماذا هو فاعل؟ على أنه في الوقت الحالي، على الأقل، يبدو التعاون ما بين كل تلك المكونات، جيدا”.

إنشرها

أضف تعليق

المزيد من FINANCIAL TIMES