Author

لا تستخفوا بأخطار الاقتصاد العالمي

|


في مثل هذا الشهر من عام 2008 فوجئ العالم بانهيار الأسواق المالية والعقارية الأمريكية، التي فاقت خسائرها 22 تريليون دولار، وتراوحت تكلفتها المالية في الدول الأخرى لمجموعة السبع، وهي كندا، وبريطانيا، وفرنسا، وألمانيا، وإيطاليا، واليابان، بين 60 و67 تريليون دولار.
هذه التكاليف لا تتضمن الخسائر التي منيت بها الاقتصادات الناشئة والدول النامية نتيجة انتقال الأزمة إليها، خاصة أن هذه الدول تأخرت في معالجتها والحد من تفاقمها، فكانت روسيا أكثر المتأثرين بهبوط مؤشر الأسواق المالية بنسبة 66 في المائة، تبعتها الصين بنسبة 55 في المائة، ثم الهند بنسبة 51 في المائة، والبرازيل بنسبة 48 في المائة، ثم متوسط مؤشرات الأسهم الخليجية بنسبة 45 في المائة، وهونج كونج بنسبة 41 في المائة.
لم يأت هذا الانهيار المرير من فراغ كما لم تكن الأزمة المالية محض مصادفة، بل كانت هناك دلائل واضحة وجلية تشير إلى حدوثها، منها إعلان منظمة التجارة العالمية فشل مفاوضات ردع الدول المتقدمة بزعامة أمريكا والاتحاد الأوروبي، للحد من تماديها في سياساتها المشوهة للتجارة، والخاصة بالدعم الزراعي المحلي الذي تمنحه أمريكا لمزارعيها بما يفوق 48 مليار دولار سنويا ودعم الصادرات الزراعية الذي يمنحه الاتحاد الأوروبي لمزارعيه بما يفوق 300 مليار دولار سنويا.
في المقابل فشلت المنظمة في إقناع الدول النامية التي تتزعمها البرازيل والصين والهند، بالانصياع للاتفاقيات الجديدة الحساسة، لقناعة هذه الدول بأنها ستؤدي إلى إرهاق أسواقهم الضعيفة وحرمانهم من مزاياهم التنافسية، مثل تقنين حقوق العمل وتكوين نقابات العمال، وتحديد المعايير البيئية الصارمة، وفتح أسواقهم النامية والفقيرة لاستيراد مزيد من السلع والخدمات عبر التجارة الإلكترونية دون حماية جمركية تذكر.
كما امتد هذا الفشل إلى قمة الأرض للقرن الـ21، المنعقدة في جنوب إفريقيا، حيث أخفقت 112 دولة في إيجاد الحلول الناجعة لمعاناة شعوب القرية الكونية، حيث إن 40 في المائة منهم يفتقرون إلى مياه الشرب، و23 في المائة منهم يرزحون تحت المرض، و35 في المائة منهم يكافحون تلوث بيئتهم، الذي دمر 3 في المائة من غابات العالم، وأدى لانخفاض أنواع الغذاء وارتفاع أسعاره بنسبة 200 في المائة. وما أشبه هذه التداعيات بأخطار الاقتصاد العالمي المحدقة بنا اليوم. فالحروب التجارية القائمة بين أكبر اقتصادين في العالم تهدد بتراجع النمو والإنتاجية بنسبة 1.6 في المائة خلال العام الجاري، وتفاقم الديون السيادية العالمية فاقت 242 تريليون دولار لتهدد بتخطي نسبة 300 في المائة من الناتج العالمي، إضافة إلى توقعات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي دون اتفاق، والتعديات على النقل البحري في الخليج العربي، الذي يمر عبره 20 في المائة من النفط العالمي، جميعها ستؤدي إلى تحول التباطؤ الاقتصادي الحالي إلى ركود عالمي.
هذه الأرقام والحقائق هي حقائق ملموسة، جندت دول العالم، بمختلف مستوياتها الاقتصادية وخططها التنموية، لمراقبتها بحذر وتقييم تحدياتها. ولا شك أن تراجع الأسواق المالية العالمية، التي تعد مرآة صادقة للركود الاقتصادي المقبل، لا تخالف هذه الحقائق والوقائع التي نعيشها في هذه المرحلة الحرجة. لذا بادرت الدول إلى تعديل استراتيجياتها وتحصين أجهزتها ومنشآتها، وتطعيم اقتصاداتها المحلية ضد عدوى الأمراض الاقتصادية العالمية المحدقة بها ومواجهة أخطارها والحد من نزيف أسواقها المالية، وتفادي آثارها السلبية.
ونظرا لأن اقتصادنا الوطني يعد جزءا لا يتجزأ من الاقتصاد العالمي، فإننا لسنا بمنأى عن تداعيات الأحداث العالمية بحلوها ومرها، حيث قد نتأثر بنتائجها لاعتماد تجارتنا الخارجية بنسبة 70 في المائة على النفط، لذا يقترح أن نبادر فورا باتخاذ الخطوات التالية:
أولا: قيام وزارات الطاقة والاقتصاد والمالية بدراسة مدى تأثير الركود الاقتصادي المتوقع وتراجع أسعار النفط ومشتقاته المصاحبة في اقتصادنا الوطني، لوضع الحلول الحاسمة لها وتفاديا لنتائجها.
ثانيا: قيام مؤسسة النقد وهيئة سوق المال بوضع استراتيجية محكمة لتجنب أي تراجع في الأسواق المالية المحلية وتقليص مخاطره، وذلك من خلال دعوة المؤسسة والمصارف المحلية إلى استثمار أرصدتها ومدخراتها في الأسواق المالية المحلية، وحثها على السماح للشركات المساهمة بإعادة شراء أسهمها من السوق لما في ذلك من تعزيز الثقة لدى المؤسسين والمساهمين على حد سواء.
ثالثا: قيام جميع لجان الرقابة الداخلية، الموجودة في مجالس إدارات الشركات المساهمة والمؤسسات المالية والاستثمارية والتمويلية، بمطالبة هذه الشركات والمؤسسات بتنفيذ مهامها وتحمل مسؤولياتها عن نتائج أعمالها، والخضوع للمساءلة والبت بشكل فوري وحاسم في حال زيادة مكافآت أعضاء إدارات مجالسها ومنسوبيها، على أن يصاحب ذلك تدقيق مسار المحافظ الاستثمارية والمعاملات التمويلية في مجال الأسهم والعقار والمشاريع الاقتصادية.
رابعا: قيام هيئات مكافحة الفساد والرقابة الإدارية والمالية بتكثيف مراقبة الشركات الحكومية الكبرى ومجالس إداراتها مع منح هذه الهيئات الصلاحيات اللازمة لاستدعاء رؤساء المجالس لمساءلتهم حول أوضاع شركاتهم المالية والتمويلية ومشاريعهم المستقبلية في ظل الظروف الراهنة.
خامسا: مطالبة الأجهزة الحكومية التنفيذية بمساندة قطاع الأعمال بكل فئاته وتسهيل مهامه وتطوير قدراته وبناء طاقاته، هذا إلى جانب تخفيض الرسوم المفروضة عليه والفوائد المقترضة من المصارف، وذلك تزامنا مع رفع الإنفاق الحكومي الاستهلاكي، وفتح الأبواب أمام الاستثمار الأجنبي. ومع أن هذه المقترحات قد تحد من أخطار ركود الاقتصاد العالمي المحدقة باقتصادنا المحلي وأسواقنا المالية، إلا أنه يتعين علينا أولا، احتراما لذاتنا، أن نقتنع بأن الاقتصاد العالمي دخل بالفعل مرحلة الخطر، ويجب ألا نستخف بتداعياته أو نستهين بعواقبه كما فعلنا أثناء الأزمة المالية والعقارية التي ألمت بالعالم فجأة في مثل هذا الوقت من عام 2008.

إنشرها