السياسية

التواصل بين الأعداء .. التخريب الإلكتروني بدلا من القنابل

التواصل بين الأعداء .. التخريب الإلكتروني بدلا من القنابل

إن خروج النزاع عن نطاق السيطرة أو عدمه، يتوقف على القدرة على فهم حجم العداء والتواصل بشأنه؛ ولسوء الحظ، عندما يتعلق الأمر بالنزاع السيبراني، لا يوجد اتفاق بشأن مدى أو بأي شكل يرتبط بالتدابير العسكرية التقليدية، وما يعده البعض لعبة أو معركة متفقا عليها، قد لا يبدو كذلك بالنسبة إلى البعض الآخر.
قبل عقد من الزمان، استخدمت الولايات المتحدة التخريب الإلكتروني بدلا من القنابل لتدمير منشآت التخصيب النووي الإيراني، وردّت إيران بهجمات إلكترونية دمرت 30 ألف جهاز كمبيوتر، وعطلت البنوك الأمريكية. وخلال هذا الصيف، في أعقاب فرض إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترمب عقوبات مشددة، أسقطت إيران طائرة استطلاع أمريكية من دون طيار، ولم تقع إصابات، وخطط ترمب في البداية لضربة صاروخية ردا على ذلك، لكنه ألغى ذلك في آخر لحظة، ليقوم بهجوم سيبراني، دمر قاعدة بيانات رئيسة يستخدمها الجيش الإيراني لاستهداف ناقلات النفط. مرة أخرى، كان ذلك مكلفا لكن من دون إصابات، وشنت إيران بعد ذلك، بشكل مباشر أو غير مباشر، هجوما بصواريخ من دون طيار وصواريخ كروز ضد اثنتين من المنشآت النفطية السعودية الرئيسة. وبينما يبدو أنه لم تكن هناك إصابات، أو أنه كانت هناك فقط إصابات طفيفة، فإن الهجوم يمثل زيادة كبيرة في التكاليف والمخاطر بحسب جوزيف س. ناي الابن الأستاذ في جامعة هارفارد ومؤلف كتاب "هل انتهى القرن الأمريكي"؟
إن مشكلة التصورات والسيطرة على التصعيد ليست حديثة العهد؛ إذ في أغسطس 1914 توقعت القوى الأوروبية الكبرى "حرب بلقان ثالثة" قصيرة وعنيفة، وكان من المتوقع أن تعود القوات إلى الوطن بحلول أعياد الميلاد، وبعد اغتيال الأرشيدوق النمساوي في حزيران (يونيو)، أرادت النمسا والمجر ضرب صربيا، ومنحت ألمانيا حليفها النمساوي شيكا فارغا، كي لا يهان أمام أنظارها، لكن عندما عاد القيصر من إجازته في نهاية تموز (يوليو)، واكتشف كيف ملأت النمسا الشيك، كانت جهوده الرامية إلى تخفيف التصعيد متأخرة للغاية، ومع ذلك، كان يتوقع أن يسود، وكان على وشك ذلك.
ولو كان القيصر والإمبراطور على دراية في آب (أغسطس) 1914، بأنه بعد ما يزيد على أربعة أعوام بقليل، سيفقدان عرشيهما، وستقسم ممالكهما أمام أنظارهما، لما دخلا في الحرب، ومنذ عام 1945 استعملت الأسلحة النووية وكأنها كرة بلورية يمكن للزعماء أن يلمحوا فيها إلى الكارثة التي تنطوي عليها حرب كبرى. وبعد أزمة الصواريخ الكوبية في عام 1962، تعلم القادة أهمية وقف التصعيد، والاتصالات لمراقبة الأسلحة، والقواعد والأصول المتبعة لإدارة الصراع.
بالطبع، تفتقر التكنولوجيا السيبرانية إلى الآثار المدمرة الواضحة للأسلحة النووية، وهذا يفرض مجموعة مختلفة من المشكلات، لأنه لا توجد كرة بلورية؛ فخلال الحرب الباردة، تجنبت القوى العظمى الانخراط المباشر، لكن هذا لا ينطبق على الصراع السيبراني، ومع ذلك، فإن تهديد بيرل هاربرز عبر الإنترنت مبالغ فيه؛ إذ تحدث معظم النزاعات السيبرانية دون الحد الأدنى الذي تحدده قواعد النزاع المسلح، إنها اقتصادية وسياسية، وليست قاتلة، وليس من المعقول التهديد بالرد النووي على سرقة الملكية الفكرية عبر الإنترنت من قبل الصين، أو التدخل السيبراني في الانتخابات التي تجريها روسيا.
وفقا للمذهب الأمريكي، لا يقتصر الردع على الرد السيبراني "رغم أن ذلك ممكن"، بل سترد الولايات المتحدة على الهجمات الإلكترونية عن طريق المجالات أو القطاعات، بأي أسلحة تختارها، بما يتناسب مع الضرر الذي حدث، وقد يكون ذلك عن طريق الإشهار والفضح، والعقوبات الاقتصادية، والأسلحة الحركية. وفي وقت سابق من هذا العام، وصف مبدأ جديد من "المشاركة المستمرة" بأنه ليس فقط تعطيلا للهجمات، بل أيضا تعزيز للردع، لكن التداخل التقني بين التسلل إلى الشبكات لجمع المعلومات الاستخباراتية، أو عرقلة الهجمات، أوالقيام بعمليات هجومية غالبا ما يجعل التمييز بين التصعيد وإلغاء التصعيد أمرا صعبا، وبدلا من الاعتماد على المفاوضة الضمنية - كما يؤكد مؤيدو "المشاركة المستمرة" في بعض الأحيان - قد يكون التواصل الصريح ضروريا للحد من التصعيد.
في نهاية المطاف، لا يمكننا أن نفترض أن لدينا ما يكفي من الخبرة لفهم المنافسة المتفق عليها في الفضاء الإلكتروني، أو أنه يمكننا أن نكون متأكدين من كيفية تفسير الإجراءات المتخذة في شبكات الدول الأخرى. فعلى سبيل المثال، لم يكن التدخل السيبراني الروسي في الانتخابات الأمريكية منافسة متفق عليها. ومع وجود مجال جديد مثل الفضاء السيبراني، يمكن للتواصل المفتوح بدلا من مجرد تواصل ضمني توسيع فهمنا المحدود للحدود
إن التفاوض بشأن معاهدات تحديد الأسلحة السيبرانية إشكالي، لكن هذا لا يجعل الدبلوماسية مستحيلة. وفي عالم الإنترنت، قد يتقلص الفرق بين ما هو سلاح وما ليس بسلاح إلى سطر واحد من التعليمات البرمجية، أو يمكن استخدام البرنامج نفسه لأغراض مشروعة أو ماكرة، حسب نية المستخدم، لكن إذا كان ذلك يجعل من المستحيل التحقق من معاهدات تحديد الأسلحة التقليدية، فقد يظل من الممكن وضع قيود على أنواع معينة من الأهداف المدنية "بدلا من الأسلحة" والتفاوض بشأن قواعد اعتباطية تحد من النزاع.
على أي حال، سيكون من الصعب الحفاظ على الاستقرار الاستراتيجي في الفضاء الإلكتروني، ونظرا إلى أن الابتكار التكنولوجي في هذا الفضاء أسرع منه في المجال النووي، فإن الحرب الإلكترونية تتميز بخوف مضاعف من المفاجأة. لكن، مع مرور الوقت، قد يؤدي تحسين الأدلة الجنائية إلى تعزيز دور العقاب؛ وقد يعزز تحسين طرق الدفاع عن طريق التشفير أو التعلم الآلي دور الوقاية والإنكار، وفضلا عن ذلك، عندما تدرك الدول والمنظمات جيدا القيود والشكوك التي تكتنف الهجمات السيبرانية، والأهمية المتزايدة لترابط الإنترنت برفاهيتها الاقتصادية، فقد تتغير حسابات مردودية التكاليف، لجدوى الحرب الإلكترونية.
مع ذلك، فإن مفتاح الردع، وإدارة الصراع، وتراجع التصعيد في عالم الإنترنت في هذه المرحلة، هو الاعتراف بأنه لا يزال أمامنا كثير لنتعلمه ولنفعله، لتوسيع عملية التواصل بين الأعداء.

إنشرها

أضف تعليق

المزيد من السياسية