ثقافة وفنون

مترجم القصيدة أم «خائنها»؟

مترجم القصيدة أم «خائنها»؟

الاستمتاع بالشعر في لغته الأصلية أفضل بمرات ومرات من قراءته مترجما إلى لغة أخرى، إلا أن هذه القاعدة تتلاشى حينما لا يعرف الشخص لغة الشاعر، فيلجأ إلى المترجم، الذي ينقله إلى لغته، بعد فهمه معناه، إلا أن النص المترجم في هذه الحالة يفقد في أحيان كثيرة السجع والجناس والمحسنات البديعية، وحتى موسيقى الوزن، إلا ما ندر.
يصف شعراء ونقاد نقل الشعر من لغته إلى لغة أخرى بأنه "خيانة" وتشويه للقصيدة الأم، فمضوا يتصيدون أخطاء المترجم ويتقصون المعنى الذي اختاره لمفردات القصيدة، فيما يرى آخرون أن ترجمة الشعر ممكنة بشروط إذا توافرت في المترجم، مثل معرفته بالشاعر والثقافتين، وإتقانه اللغتين بالطبع.

ترجمة مستحيلة
ترجمة الشعر من أكثر المسائل المثيرة للجدل بين المثقفين والأكاديميين في كل أنحاء العالم، فها هو رومان جاكوبسون عالم اللغة الروسي يقول "إن الشعر غير قابل للترجمة، بل مستحيل، والممكن فقط هو النقل الإبداعي"، ويتفق معه روبرت فروست الشاعر الأمريكي الراحل، الذي وصف الشعر بأنه "يضيع في الترجمة"، في إشارة إلى استحالة نقل الشعر من لغة إلى أخرى، ولا سيما السمات الخاصة للقصيدة كالصوت والإيقاع، وتراكيب ودلالات بحرها.
ويعلل مترجمون ولغويون عدم خوضهم ترجمة الأعمال الشعرية بأن الترجمة تحول الأبيات عادة إلى نص نثري، يهمل موسيقى الوزن، ويخضع لتفسير المترجم للنص وما يفهمه، الذي يصيبه الخطأ في بعض الأحيان، فيحيد عن المعنى الحقيقي.
سبقهم الجاحظ في كتابه "الحيوان" إلى النتيجة ذاتها، إذ يرى أن هناك طريقة واحدة لنقل الشعر تتمثل في تحويله إلى نثر، بإعادة صياغة معانيه صياغة نثرية مرسلة لا نظم فيها ولا وزن ولا حسن ولا موضع تعجب، وهذا الحل مستهجن عند الجاحظ؛ لأن النثر في لغته الأصلية أجمل وأوقع أثرا منه في لغة مترجمة، كما أن المرء عندما يقرأ معاني الشعر مترجمة نثرا سيرى فيها تكرارا للمعاني الموجودة في النثر المكتوب بلغته.
الجاحظ كان يرى أن المعاني شائعة بين الأمم، ولا يقوى العرب على منافسة العجم فيها، لكنه قال في موضع آخر عبارته الشهيرة التي يتدارسها اللغويون حتى يومنا هذا، منها كتاب "نظرية الشعر عند الجاحظ" للدكتورة مريم المجمعي، وهي "الشعر لا يستطاع أن يترجم ولا يجوز عليه النقل، ومتى حول تقطع نظمه وبطل وزنه وذهب حسنه وسقط موضع التعجب فيه".
شروط الشاعر
في كتابه الصادر في عام 2012، بعنوان "قصائد فرنسية"، ويضم مجموعة مختارة من دواوين كبار الشعراء الفرنسيين، يقول الدكتور حامد طاهر "إن أوروبا أدركت منذ أكثر من قرنين أهمية ترجمة الشعر كمدخل لمعرفة الروح العربية، فنقلت إلى لغاتها كثيرا من الشعر العربي، وفي مقدمته "المعلقات"، التي هي أصعب ما في الشعر العربي، ولا يكاد يستوعبها أو حتى يقرأها العرب المعاصرون أنفسهم، ثم راحت تدرسها، وتحلل كل لفظة فيها، لكي تعرف من خلال ذلك كيف كان "يشعر" العرب القدماء".
ووضع طاهر أربعة شروط يجب توافرها في الشاعر قبل أن يترجم قصيدة، أولها وأصعبها هو أن يكون مترجم الشعر شاعرا، والسبب في ذلك أن الشعراء هم أفضل من يعرفون بعضهم بعضا، ويدركون من الوهلة الأولى مدى الموهبة الشعرية التي يتمتع بها كل واحد منهم، وفي شرطه الثاني أن يكون ناقدا، يمكنه أن يحدد قيمة الشاعر والقصيدة معا في إطار التراث الشعري، وحتى لا تكون القصيدة مجرد تكرار أو نسخة أخرى من عمل سابق، كما يجب أن يكون على مستوى جيد جدا بمعرفة اللغة المترجم منها، وكذلك اللغة المترجم إليها، كاشفا في مفارقة غريبة أن كثيرا ما نقرأ أشعارا مترجمة لا يكاد مَن نقلها يجيد إحدى اللغتين، ورابعا أن يكون دقيقا جدا، وأمينا للغاية في نقل معاني القصيدة وإيحاءاتها قدر الإمكان إلى لغته، مبينا في الكتاب الذي اطلعت عليه "الاقتصادية" أن الإعجاب الشخصي يظل هو سيد الموقف.

شعر غامض وصعب
الدكتور حسن بحراوي من المغرب، الناقد الذي نقّب طويلا في ترجمة الشعر، توقف في كتابه "مدارات المستحيل.. دراسات في ترجمة الشعر" عند المترجمين العرب الذين أحجموا عن ترجمة الآثار الأدبية القديمة، خاصة الأعمال الملحمية والشعرية، الإغريقية والرومانية، مثل ملاحم هوميروس وأنيادة فيرجيل، هذه النصوص الكبرى التي تبدو كأنها كتبت كي لا تترجم، غير أن الكاتب المغربي عبدالفتاح كيليطو أكد أن العرب وحدهم هم من كتب شعرا غامضا وصعبا، بغرض ألا تمتد إليه يد المترجمين.
وعودة إلى بحراوي وكتابه ذي الـ105 صفحات، فإن الدقة الكاملة في ترجمة الشعر تبدو مستحيلة، لكنه يبرر هذا النوع من "الخيانة"، إذ كتب مبررا "يبقى خارج من مقدورنا تماما، لاستحالة نقل كل القيم التعبيرية والشعرية التي تطفح بها القصيدة. ومن هنا، لا مفر من الخيانة في أي من درجاتها، لكن تجربة ترجمة الشعر نفسها، عبر العصور، تعلمنا أن أفق الأمانة يظل مفتوحا بكامل النسبية المتوقعة في مجال مشروع على كل الممكنات، هو مجال الإبداع الإنساني".
وتناول أيضا دراسات المفكرين واللغويين، مثل فيجي روبير، الذي لخص المسألة في أحد كتبه التي قارب فيها إشكالية ترجمة الشعر "ما أسهل القول باستحالة ترجمة الشعر على وجه الإطلاق، لكن ما أصعب تبريره أمام ذاك التراكم الهائل الذي يتعزز كل يوم باستمرار نقل آلاف الدواوين والقصائد فائقة الصعوبة إلى مختلف اللغات. ولعله من نافل القول إن الترجمة تكون في غاية اليسر عندما تتصدى لنقل الوقائع والأفكار، لأنها لا تكون بحاجة سوى إلى المعرفة اللغوية التي يمكن أن توفرها المعاجم والقواميس. لكن الأمر ليس كذلك في حالة الأعمال الأدبية التي لا تكون رسالتها هي المضمون وحده، إذ إننا نكون في مجال يصبح فيه المضمون شديد الارتباط بالعبارة، أي بالشكل نفسه الذي يفترض إيجاد صيغة للنقل، بل ويصبح الأمر أشد تعقيدا عندما يتعلق موضوع النقل بعمل شعري، ذلك أن البيت الشعري يكون - بسبب لغته ومظهره - مصدرا لعديد من المشكلات الشائكة".
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من ثقافة وفنون