ثقافة وفنون

التنوع اللغوي العالمي .. إرث إنساني مهدد بالاندثار

التنوع اللغوي العالمي .. إرث إنساني مهدد بالاندثار

يعد التواصل بين الناس من أهم التطورات في تاريخ البشرية، واهتدت إلى ابتكار حرفة الترجمة، لضمان مزيد من التواصل بين مختلف الألسن والشعوب المنتشرة في بقاع العالم. فأحدث الأرقام يفيد بأن الأرض تتحدث حاليا 7099 لغة، من دون اعتبار للسجال بشأن الحدود بين اللغة واللهجة، لكن تبقى نسبة 6 في المائة فقط، يتعدى عدد متحدثيها أكثر من مليون شخص.
لم يحسم هذا الانتشار اللغوي الجدال القديم حول كيفية ظهور ونشأة اللغة؟ فهناك نظريات عدة في هذا الشأن "محاكاة الطبيعة، نظرية العقل، التعليم الإلهي..."، رافقها كم هائل من الأدلة والبراهين حول هذا الأصل، لكن ذلك لم يزد الأمر إلا تعقيدا، لدرجة صنفت هذه المسألة ضمن أصعب المشكلات المتصلة بعدد لا نهائي من الفرضيات والنظريات والحقائق.

خريطة اللغات في العالم
تختلف القارات الخمس في عدد اللغات المستخدمة فيها، حيث تحتل القارة الآسيوية مركز الصدارة بعدد لغات وصل إلى 2301 لغة، تليها القارة السمراء بما مجموعه 2138 لغة، فالقارة الأسترالية ودول الباسفيك بأكثر من 1310 لغات، ثم القارة الأمريكية بنحو 1046 لغة، وأخيرا القارة الأوروبية بواقع 246 لغة، رغم ما تدعيه من تعددية قومية.
لا تكشف هذه الأرقام بما تحمله من تعددية وغنى اللسان البشري عبر التاريخ، سوى جزء من الحقيقة فقط؛ فأكثر من ثلثي سكان العالم يتحدثون 12 لغة رسمية فقط، من أصل اللغات الموجودة في العالم كافة، في مقدمتها اللغة الصينية بمجموع 1,39 مليار متحدث، تليها اللغتان الهندية والأوردية؛ اللتان لهما الجذور اللغوية نفسها، بنحو 588 مليون ناطق، ثم اللغة الإنجليزية بواقع 527 مليون ناطق، أما اللغة العربية فيستخدمها نحو 467 مليون شخص، وهم أكثر بقليل من الناطقين باللغة الإسبانية البالغ عددهم 389 مليونا.
ينقلب هذا الترتيب كليا باعتماد معيار اللغة الأكثر استخداما في الدول، فتصبح لغة الأديب شكسبير في الصدارة بمجموع 101 دولة، تليها لغة الضاد في 60 بلدا، ثم لغة المسرحي موليير في 51، فلغة الحكيم كونفوشيوس في 33 دولة، فلسان الروائي ثيربانتيس في 31 دولة.
كان الاستعمار سببا مباشرا وراء انتشار وهيمنة بعض اللغات، فلغة "الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس" تعد رسميا في 54 دولة، تليها الفرنسية في 29 دولة حيث فرضت نفسها بقوه في القارة الإفريقية، ثم اللغة العربية في 26 دولة، فاللغة الإسبانية في 21 دولة أغلبها في أمريكا الجنوبية، وأخيرا اللغة البرتغالية في تسع دول فقط.

غرائب وعجائب الألسن
ينتشر في صفوف اللغويين عديد من الفرضيات حول العائلات الكبرى للغات، فهناك لغة سامية، تفرع عنها عبر التاريخ نحو 20 لغة، من أشهرها العربية والعبرية والأمهرية والآرامية والآشورية والفينيقية، مقابلها نجد لغة حامية، تضم بدورها لغات عديدة كالمصرية القديمة والأمازيغية والكوشيتية... إلخ.
يفتقد ما سبق إلى حجج وأدلة تعززه، ليبقى بذلك أقرب إلى الأساطير منه إلى الحقائق العلمية المشفوعة بالبراهين، لكن هذا لا يمنع من البحث في ثانيا اللغات المعروفة حاليا للوقوف عند أصعبها وأجملها على اللسان.
تعد اللغة الصينية من أشد اللغات تعقيدا من حيث التعلم، لاحتوائها على عدد كبير من الرموز والرسوم المساعدة على استيعابها؛ فعلى المتعلم امتلاك قدرة التمييز بين ثلاثة آلاف رمز مختلف، وضبط نحو ألفي حرف من أصل 50 ألف حرف التي تشكل أبجدية هذه اللغة.
اللغتان اليابانية والكورية ليستا أفضل حالا، لاحتوائهما على كثير من الحروف والأشكال على غرار الصينية، ما يعني أن المتعلم مجبر على تذكّر الأشكال والأحرف بشكل مستمر، هذا إضافة إلى احتواء اليابانية على نظامين مختلفين للكتابة، ما يطلب جدا مضاعفة عند التعلم، بينما تفتقد الكورية أي رابط مع اللغات الموجودة حاليا، وذلك راجع في الأساس إلى انغلاقها على نفسها.
بعيدا عن صعوبة وعسر التلقين تصنف اللغة الويلزية - نسبة إلى بلاد ويلز غرب بريطانيا - كأجمل لغة في العالم، كونها خضعت في العقود الماضية إلى عملية إنعاش يمكن أن تكون نموذجا للغات المهددة بالانقراض في جميع أنحاء العالم، تليها من حيث الجمالية اللغة الإيطالية التي يُجمع الكل على أن نطقها بشكل سليم ودقيق يكاد يشبه أداء أغنية عاطفية، واختيرت اللغة التشيكية كواحدة من ألطف وأجمل اللغات السلافية، فهي مزيج من هذه الأخيرة واللغة الجرمانية، ما يمنحها فرادة في النطق، دون أن ننسى طبعا اللغة البنغالية؛ إحدى أروع اللغات المستعملة في شبه القارة الهندية؛ فنظام كتابتها الرائع ساعد على ولادة شاعر إنساني عظيم يدعى طاغور، وفرض الدفاع عنها تضحية عديد من الطلاب بأنفسهم للدفاع عن حقهم في استخدام هذه اللغة.

إرث إنساني مهدد
لا يتوقف اللغويون عن التحذير من المخاطر المحدقة باللغات الإنسانية، فالعقود المقبلة بالنسبة إليهم تنذر بكوارث كبرى من شأنها أن تقضي على ثلث لغات العالم، فبعض الدراسات خلص إلى أن التنوع اللغوي يتلاشى، حيث تموت لغة كل 14 يوما. ويتوقع أن تنقرض 50 إلى 80 في المائة من اللغات المتداولة اليوم في غضون القرن المقبل.
بحلول عام 2100 يتوقع جون ماك ورتر عالم اللغة في جامعة كولومبيا أن تتلاشى 90 في المائة من اللغات، لتظل نحو 600 لغة فقط موجودة حينها، بفعل العولمة والتطور التكنولوجي الذي حول العالم إلى قرية صغيرة، إضافة إلى كثرة موجات الهجرة نحو مناطق جديدة من العالم، ما يوجد ثقافات جديدة، على غرار ما حدث في أمريكا وأستراليا بفعل الاستعمار، حيث اختفت اللغات الأصلية لتلك الشعوب بشكل كامل.
يتحدث المجلس الأوروبي من جانبه، على أن 96 في المائة من لغات العالم اليوم يتحدث بها فقط 4 في المائة من سكان العالم، وأكثر من نصف سكان العالم يتحدثون 23 لغة فقط، ما يعني أن الخطر محدق فعلا بفكرة التنوع اللغوي، فنحن قاب قوسين من فقدان هذا الإرث الإنساني.
وهذا ما تتحدث عنه "اليونيسكو" في "أطلس لغات العالم"، حيث كشف عن وجود أكثر من 2470 لغة في خطر حاليا، وقرابة 600 لغة ضعيفة، وأكثر منها بقليل 640 في خطر مؤكد، وأكثر من 570 لغة مهددة بالانقراض، ونحو 290 لغة أضحت منقرضة.
لا سبيل أمام البشرية، إن رغبت في حماية هذا الإرث من الزوال، سوى العمل بنصيحة ورتر الأكاديمي الأمريكي، وهي التدوين، فاللغة كيفما كانت تبقى مهددة ما لم تدوَّن وتوثَّق، لأن رحيل الجيل الذي يتحدث بها ويستخدمها سيؤدي إلى موتها. مؤكدا أن "اللغة ليست مجرد مجموعة من الكلمات والقواعد، إنما هي جزء من الثقافة والتعلم المبكر، وتعليمها للأطفال يبقيها حية، فضلا عن أن اللغة تمثل مجموعة من المشاعر أيضا".
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من ثقافة وفنون