السياسية

دخول جونسون وخروج بريطانيا .. خطة محكمة لإبعاد البرلمان

دخول جونسون وخروج بريطانيا .. خطة محكمة لإبعاد البرلمان

دخول جونسون وخروج بريطانيا .. خطة محكمة لإبعاد البرلمان

تستمر الإثارة في مسلسل الخروج المرتقب لبريطانيا من النادي الأوروبي، بعد أن قرر بوريس جونسون رئيس الوزراء؛ يوم الأربعاء المنصرم، تعليق عمل البرلمان البريطاني، وقد حظي بموافقة الملكة إليزابيث الثانية. بهذا القرار يمدد الرجل التعليق الطبيعي لأعمال البرلمان خلال شهر أيلول (سبتمبر)، لتزامنها مع انعقاد المؤتمرات السنوية للأحزاب، حتى 14 تشرين الأول (أكتوبر)، وهو ما يعني زيادة 12 يوما إضافية عن موعد آخر مؤتمر حزبي لحزب المحافظين.
أثار قرار بوريس؛ الحديث العهد برئاسة الوزراء، ردود فعل قوية في أوساط السياسيين البريطانيين، فقد عدوا الأمر بمنزلة خطة محكمة من جانبه، لإبعاد البرلمان من أي دور مرتقب في خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي المقرر في 31 من الشهر المقبل. وعده آخرون ضربة استباقية استعان فيها زعيم المحافظين بالملكة، مخافة تكرار سيناريو تيريزا ماي رئيسة الوزراء المستقيلة، بعدما رفض البرلمان ثلاثة مقترحات توصلت بها حكومتها طيلة عامين من التفاوض مع الاتحاد الأوروبي بشأن تفاصيل مغادرة بريطانيا.
شأن داخلي صرف اهتزت له العواصم الأوروبية الكبرى "باريس، برلين، بروكسل..." بحكم ارتباط تداعياته، وما سيترتب عليه من نتائج بشكل مباشر بعلاقة لندن بالاتحاد الأوروبي، في وقت هللت له الإدارة الأمريكية في شخص رئيسها دونالد ترمب الذي غرد معلقا على تفاصيل خاصة بالشأن السياسي البريطاني بقوله "سيصبح من العسير جدا على كوربين الزعيم العمالي أن يحصل على تأييد لتصويت بسحب الثقة من جونسون، خصوصا أن بوريس جونسون هو الشخص الذي كانت بريطانيا تنتظره وتبحث عنه".
يعد تعليق عمل البرلمان من الناحية المؤسساتية آلية رسمية لإنهاء جلسة البرلمان، بقرار يصدر عن الملكة بناء على رأي رئيس الحكومة. وعادة ما يمتد إلى فترة قصيرة؛ قبيل الدخول البرلماني، تليه إجراءات جديدة على رأسها خطاب جديد للملكة، تحدد فيه جدول الأعمال التشريعي للحكومة بالنسبة إلى الدورة البرلمانية المقبلة. ويترتب على هذا الإجراء في المقابل وقف أي نقاش أو تداول أو تصويت، وإنهاء مشاريع القوانين والتشريعات كافة التي لم تجد طريقها للتصديق.
تاريخيا، استعان الملوك - الذين تعاقبوا على حمل التاج البريطاني - بأسلوب تعليق عمل البرلمان، لمنع النواب في مجلس العموم من التدخل في شؤون البلاط الملكي، فكان أول استعمال له من قبل الملك شارلز الأول عام 1628 بعدما عبر نواب عن معارضتهم له، واستخدم حديثا عام 1948 من قبل مجلس اللوردات لمنع قوانين برلمانية ترمي إلى تقليص عدد أعضاء مجلس اللوردات من فئة النبلاء بالوراثة.
قانونيا، بقي رئيس الوزراء ضمن نطاق الصلاحيات الممنوحة له بموجب الدستور، لكن الإشكال يثار بشأن التوقيت الذي اختاره لذلك، ما دفع بجون بيركو رئيس مجلس العموم إلى عد القرار "انتهاكا للقيم الدستورية وخرقا للعملية الديمقراطية وحقوق البرلمانيين بوصفهم ممثلين منتخبين للشعب". ويضيف بنبرة حادة وصريحة "كيفما تم تزيينه، فمن الواضح بشكل لا يقبل الشك أن الغرض من وراء تعليق عمل البرلمان هو منع النواب من مناقشة عملية الخروج من الاتحاد الأوروبي، ومنعهم من أداء دورهم في رسم مستقبل البلاد".
لذا يكون سند القرار مشروعا، لكن غايته غير مشروعة، فهو يرد ضمن إطار سياسة لي الذراع للمعارضة الرافضة للخروج من دون اتفاق؛ مصنفة ما يجري ضمن خانة "الفضائح الدستورية". إنه باختصار، محاولة لإبعاد البرلمانيين من مناقشة مصير ومستقبل البلاد، ومختلف الترتيبات اللازمة لتوقيع الطلاق بين لندن وبروكسل. ببساطة لأن المسألة بعملية حسابية تعني عودة ممثلي الأمة البريطانية إلى ممارسة مهامهم التشريعية والرقابية على بعد ثلاثة أيام من موعد قمة الاتحاد الأوروبي الحاسمة في 17 من تشرين الأول (أكتوبر)، وعلى بعد أسبوعين فقط من موعد الفراق المرتقب.
بدأت تظهر تداعيات المعركة الحادة لنسف خطة رئيس الوزراء، بعد أن لجأت مجموعة تضم 75 برلمانيا من أنصار الوحدة الأوروبية إلى السلطة القضائية، لاستصدار حكم مؤقت يطعن في شرعية قرار التعليق، في انتظار جلسة حول جوهر القضية نهاية الأسبوع الجاري، لكن الحكم العاجل الصادر يوم الجمعة المنصرم من أعلى هيئة قضائية في أدنبره رفض الطلب، مانحا الطرفين عشرة أيام فقط لإعداد حججهم القانونية وأربعة أيام أخرى لمراجعتها.
قضائيا دائما، قررت الناشطة جينا ميلر - التي برزت إعلاميا عام 2016 بعدما ربحت قضية أجبرت فيها البرلمان على التشريع بأن المادة 50 تقبل الاعتراض - التقدم بطلب عاجل إلى المحكمة العليا لإجراء مراجعة قضائية لخطة بوريس، مؤكدة أن "التاريخ الحديث لم يشهد مثالا يتم فيه تعليق البرلمان بهذه الطريقة".
على الصعيد السياسي، عد جيريمي كوربن زعيم حزب العمال المعارض الخطوة بمنزلة "فضيحة وتهديد للديمقراطية البريطانية"، معلنا أنه طلب في رسالة لقاء الملكة للحديث معها بهذا الشأن. أما جريف وزير العدل السابق فقد ذهب حد الهديد بأن "إذا أصر رئيس الحكومة على سلوك هذا المنحى، ولم يتراجع عنه، أعتقد أنه من المرجح أن حكومته ستنهار".
يتضح من الخطوات التصعيدية للزعيم الجديد للبريطانيين أنه مصمم على الخروج في الموعد المحدد باتفاق أو بدون، لأن الأمر سيان في نظره، كل ما يبقى هو الوفاء بوعد انتخابي قطعه، وإن كان يفضل في دواخل نفسه - بحسب مقربين منه - الخروج بلا اتفاق، لأن ذلك يخفف من حجم الالتزامات الواجب عليه الوفاء بها، حتى إن كان يندر ببعض الأزمات "الاقتصادية، الأمنية...". بقرار تعليق عمل البرلمان، بعد نحو شهر على تولي مهام رئاسة الوزراء، وبأغلية هشة جدا في البرلمان، يكون رئيس الوزراء الجديد قد وضع كل بيضه في سلة واحدة، بعدما قرر أن يغامر برصيده النضالي ومستقبله السياسي أيضا، في معركة لا يستطع أحد مهما بلغت به الخبرة والدهاء أن يحدد نطاقا لعواقبها؛ فالخروج وحده ليس نجاحا بل النجاح يكون في معركة ما بعد الخروج. يدرك زعيم المحافظين أن مثل هذه الفرص لا يجود بها التاريخ دائما، لذا قرر خوض المغامرة، فإما الخروج بلا اتفاق والدخول في معركة وتبعات ما بعد الخروج؛ ولا سبيل إلى ذلك غير تعليق البرلمان، وبذلك يدخل التاريخ من بابه الواسع على غرار من سبقوه في صناعة أمجاد الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، وإما تمكن البرلمان من سحب الثقة من الحكومة، ما يعني إسقاطها والدعوة إلى انتخابات مبكرة، ليخرج بذلك من النافذة على شاكلة من سبقوه، حينها سيحتفظ لنفسه على الأقل بشرف المحاولة.

إنشرها

أضف تعليق

المزيد من السياسية