FINANCIAL TIMES

الاستثمار في عصر تفكك العولمة .. السلع الأساسية خيار معقول

الاستثمار في عصر تفكك العولمة .. السلع الأساسية خيار معقول

أخبرني وارن بافيت ذات مرة أن استثماراته المفضلة لم تكن رهانات على الولايات المتحدة بقدر ما كانت رهانات حول قدرة الشركات الأمريكية على مواصلة تصدير الرأسمالية إلى جميع أنحاء العالم.
مقتنيات "بيركشاير هاثاواي"، مثل "أمريكان إكسبريس" و"كوكا كولا" و"كرافت - هاينز" و"بروكتر آند جامبل"، كانت في شركات عالمية ضخمة. حصة متزايدة من نموها كانت تأتي من الأسواق الناشئة، عندما كانت لا تزال تدر أرباحا موثوقة. وكانت، كما قال في 2012، أكثر أمانا حتى من سندات الخزانة الأمريكية.
ما الفرق الذي يمكن يشهده المنظور بعد مرور بضع سنوات. ضع جانبا التحديات الأخيرة التي تواجهها الشركات الفردية مثل "كرافت - هاينز". في هذه الأيام الحكمة الكاملة للتحوّط عبر أسهم الشركات الأمريكية متعددة الجنسيات باتت أمرا مشكوكا فيه. أصبح من غير الواضح الآن كيف - أو، في بعض القطاعات، إن وجدت - ستجري الأعمال عبر الحدود في السنوات المقبلة.
نعلم جميعا أن العولمة مهددة. تشير أرقام جمعها معهد الاقتصاد السويسري إلى أن العولمة بلغت ذروتها ثم استقرت قبل عدة سنوات من بدء الحروب التجارية الحالية. الرياح المعاكسة الحالية - من انخفاض الإنفاق الرأسمالي عبر الحدود إلى توطين سلاسل التوريد بسبب الشعبوية والتعرفات الجمركية وتشجيع الأبطال الوطنيين - لن تتوقف في وقت قريب.
لذلك بدأ أذكى الرأسماليين في إعادة التفكير في نظرياتهم الأساسية للاستثمار لتناسب العصر الجديد: عصر تفكك العولمة. بعض القواعد الجديدة واضحة – الاستثمار في أكبر الشركات قد لا يكون النهج الأمثل. أظهر تقرير حديث يناقش تفكك العولمة من "جيه. بي مورجان" أن هناك علاقة وثيقة للغاية بين كثافة التجارة عبر الحدود وهوامش ربح الشركات الأمريكية على مدار الـ20 عاما الماضية. على وجه الخصوص الشركات الكبيرة ذات رأس المال "استفادت إلى حد كبير من تحديد مكان العمال والمصانع والموارد في البلدان ذات تكاليف الأجور والضرائب واللوائح والبنية التحتية (في الأماكن) الأكثر نفعا لها". هذه العلاقة تنهار الآن الوقت الذي أصبحت فيه التجارة جالبة للاحتكاك بصورة متزايدة. ستكون التكنولوجيا هي ساحة المعركة الرئيسية التي ستدور عليها الحروب التجارية والصراعات السياسية في المستقبل. انظر إلى العناوين الأخيرة في هذه الصناعة، فهي تتضمن مزيدا من الخلافات بين الولايات المتحدة والصين حول مجموعة التكنولوجيا الصينية "هواوي"؛ افتتاح الاتحاد الأوروبي لقضية مكافحة الاحتكار ضد "أمازون" والغرامات المحتملة على "كوالكوم"، ومعاناة مجموعة السبع من أجل الاتفاق على نظام للضرائب الرقمية.
أسهم التكنولوجيا الأكثر عولمة، التي دفعت السوق إلى الارتفاع في السنوات الأخيرة، ستؤدي إلى هبوطها أيضا. النكسات الأخيرة التي حدثت في مجموعة "فانج" ("فيسبوك" و"أمازون" و"أبل" و"نتفليكس" و"ألفابيت") تعد مؤشرا واحدا على ذلك، لكن هناك عديد من الأمثلة الدقيقة والأكثر دلالة على ما سيحدث. "آرو إليكترونيكس" Arrow Electronics، موزعة القطع وأشباه الموصلات التي تدخل في صناعة السيارات وغسالات الصحون وأجهزة الكمبيوتر والهواتف في جميع أنحاء العالم، حذرت مستثمريها من انخفاض في الأرباح، مشيرة إلى "تدهور ظروف الطلب".
هذا لا يعني أن التكنولوجيا لن تقود النمو بعد الآن – الأمر هو أن أفضل الفرص الاستثمارية ربما تكون في الصين والأسواق الناشئة. أوضحت بكين أن مبادرتها المسماة "حزام واحد طريق واحد" لن تختص ببناء البنية التحتية فحسب، بل ستنشئ نظاما إيكولوجيا عالي التكنولوجيا يعتمد على المعايير الرقمية الصينية والشركات الصينية. أصبحت الصين ميدان التجارب العالمي في مجال المدفوعات عبر الأجهزة المحمولة وتطبيقات الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا الحيوية المتطورة. أعتقد أن الصين، إلى حد كبير، تشبه الولايات المتحدة في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية – سوق ضخمة تستخدم لغة واحدة ولديها طلب متزايد على السلع الاستهلاكية. ستجذب بقية آسيا وعديدا من الأسواق الناشئة إلى مدار النمو الخاص بها. انظر إلى القرار الأخير للفلبين، الحليفة التقليدية للولايات المتحدة، الخاص بتكليف شركات اتصالات صينية بتنفيذ شبكة الجيل الخامس في البلاد. لا أستطيع أن أتصور أن المستثمرين ليست لديهم رغبة في أن يحققوا في آسيا نجاحات أفضل مما يحققونه في الولايات المتحدة أو أوروبا في السنوات المقبلة.
قد يكون هذا صحيحا ليس في الأسهم فحسب، لكن في السندات أيضا. تماما كما اندفع المستثمرون الباحثين عن العائد في عالم أسعار الفائدة المنخفضة، إلى مجالات يبدو أنها عالية النمو مثل أسهم التكنولوجيا في العقد الماضي، كذلك يحاولون التحوّط من صدمة نمو من خلال التدفق إلى أسواق السندات التي أصبحت الآن فقاعة بأبعاد ملحمية. من الشائع القول إذا وقعت الولايات المتحدة، والعالم بأسره، في حالة ركود سيتدفق الناس بشكل أكبر إلى سندات الخزانة الأمريكية باعتبارها ملاذا آمنا. لكن منذ أن أعلن بنك الشعب الصيني في عام 2013 أنه لم يعد من مصلحة الصين تعزيز احتياطيات النقد الأجنبي بدأ أحد مقاييس الطلب – معدل "العرض إلى التغطية" لسندات الخزانة الأمريكية – في الانخفاض.
في الوقت نفسه، الفرق بين السندات الحكومية الأمريكية لمدة عشر سنوات ونظيراتها الصينية آخذ في الاتساع. أوضحت بكين أنها ستستخدم الحوافز المرتبطة بالبنية التحتية لدعم الاقتصاد المتباطئ. وهي تتطلع إلى زيادة التجارة بالرنمينبي، وإلغاء الحد الأقصى للملكية الأجنبية على الشركات المالية في وقت أبكر مما كان متوقعا. كل هذا من أجل تقليل الاعتماد على الدولار، وإنشاء نظام بيئي مالي محوره الصين.
الجاذبية الصينية ستدعم أيضا أسواق السلع. الصينيون بحاجة إلى النفط – وذلك يفسر انخراط بكين المتزايد في الشرق الأوسط والعلاقات الجيدة مع روسيا. السلع الأساسية ستكون واحدة من الأسواق القليلة المحمية من تفكك العولمة، وستكون السبب الرئيسي وراء نمو الطبقة المتوسطة في الأسواق الناشئة. الحقبة الجديدة في مصلحة هذه الشريحة الديموغرافية وليس لمصلحة الشركات متعددة الجنسيات في الولايات المتحدة.
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من FINANCIAL TIMES