ثقافة وفنون

مشيل سير .. الفيلسوف المتفائل بثورة التكنولوجيا

مشيل سير .. الفيلسوف المتفائل بثورة التكنولوجيا

غادرنا أوائل شهر حزيران (يونيو) المنصرم مشيل سير (1930-2019)؛ فيلسوف فرنسي من طينة خاصة، لم يكن لأعماله التنسيقية بين المعارف قصد استيعاب الإنسان لموقعه في الكون صدى في الأوساط العربية، على الرغم من مركزية السردية التجميعية الكبرى التي يقدمها حول العلوم والمعارف؛ متأثرا ربما بتكوينه الأولي.
كان الهم الأول للراحل منذ أن وطأت قدماه رحاب قارة الفلسفة الفسيحة؛ قادما إليها من عالم البحر، حيث اشتغل ضابطا في البحرية الفرنسية لثلاث سنوات (1949-1953)، هو البحث عن مداخل وأدوات لفهم العالم الذي نعيش فيه. ما انعكس بجلاء على تفكيره، فلا مجال للحديث عن نسق فلسفي منغلق ونهائي عند الرجل. فمن شأن النسقية والتحجر في الفكر أن تؤدي في النهاية إلى الأيديولوجيا (التعصب) والديكتاتورية.
اشترك هذا الفيلسوف مع عميد السوسيولوجيا الفرنسية إدغار موران في اعتماد مقاربة الجمع بين كل المعارف الممكنة، أو ما يطلق عليه "الثقافة العلمية وثقافة الإنسانيات". ويدعو زملاءه من مثقفين ومفكرين إلى النزول من عرش اللغة الغامضة وتعقيدات الماورائيات والمفاهيم والنظريات إلى بساطة اليومي ومشاكله واحتياجاته. لذا لا ينفك في التأكيد على أن "الترحال بين مختلف مجالات الفكر من شأنه أن يقدم صورة عن الفيلسوف باعتباره ذلك الذي يوجد في جميع الأمكنة، تحدوه الرغبة اليائسة والمستحيلة لبلوغ كلية المعرفة".
وقف صاحب كتاب "العقد الطبيعي" (1990) في صف أنصار الثورة التكنولوجية التي بدأت بوادرها تظهر بدءا من منتصف الستينيات، معلنة نهاية حقبة وبداية أخرى. فهو نقيض معاصريه أمثال بوديار وتودوروف ... ممن يربطون عواقب التكنولوجيا بسياق الرأسمالية والعولمة، يصر على امتداح المنعطف التكنولوجي الجديد. فجيل هذه الثورة في نظره، أقل ضررا بالطبيعة من الأجيال السابقة، بل وأقل اكتراثا بالأيديولوجيات والتعصب للهوية والانتماء التي لا تليها إلا عواقب مدمرة مثل الحروب والكوارث.
حرص الراحل على التتبع الدقيق لعالم اليوم؛ عالم الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي والهاتف المحمول وتقدم الطب ونهاية الزراعة... هذا العالم المتطور بشكل سريع، والمرتكز على التواصل بشكل لا سابق له في التاريخ.
يرفض هذا الفيلسوف المشكلات الأطروحة الشائعة حول العالم الافتراضي، ففي نظره الافتراضي قديم قدم العالم، ومنتشر في كل الثقافات؛ فدون كيشوت وعوليس وجحا... كلهم افتراضيون. لم تقم التكنولوجيا الجديدة سوى بتسريع الافتراضي، لكنها أبدا لم تخلقه. الجدة الحقيقية، بحسبه دائما، هي إمكانية بلوغ عالم الأشخاص كونيا مع مواقع التواصل الاجتماعي، وبلوغ مختلف الأماكن مع تقنية تحديد المواقع، ومختلف المعارف مع ويكيبيديا.
نعيش مرحلة ولادة إنسان جديد اختار لها هذا الفيلسوف اسم إنسان "الإصبع الصغيرة" (Petite poucette)، الذي ليس عليه سوى تحريك هذا الإصبع ليحصل على ما يريد أو يتواصل مع من يريد. أليس هذا في حد ذاته أكبر دليل على أن الإنسانية سائرة على درب التقدم إلى الأمام، وبصدد القيام بقطيعة شبه كاملة مع حيوات الأجيال السابقة.
استطاع هذا "الفيلسوف المتفائل" أن يحشد كثيرا من الأتباع والمؤيدين لأطروحته في الأوساط الأوروبية والعالمية، لما يتسم به خطابه الفلسفي من رؤية إيجابية وأفكار حيوية. لكن الإعلان عن عصر إنساني جديد، لا يقدم حلولا سحرية للإشكالات التي يناقشها. فهو مثلا يمتدح سهولة التعلم على الإنترنت، وإسقاط الوسائط، والاطلاع على كل شيء بشكل فردي... ولا يقول إن كان ذلك بديلا فعليا للنظم التقليدية أم لا.
قد نكون غير منصفين، حين نحاكم الرجل بالقواعد والأطر التقليدية المألوفة، التي قاد ثورة ضدها، فزمن القراءات الفلسفية القديمة السائدة ولى. وقد لا نبالغ حين نعدّ أن سير أعاد تعريف الفلسفة وفق النظرة الإغريقية القديمة، لكن وفق رؤية تتوافق وهذا العصر الذي يراه جميلا. بذلك يعيد رسم حدود لحقل اشتغاله، بقوله: "نحن الفلاسفة منتشون بالكلية، إلا أننا ننطلق دوما من نقطة مفردة، يمكن أن توجد هنا أو هناك. من أين تنطلقون أنتم؟ من أي مكان! لكن عندما يبدأ الأمر فإنه يجتاح الكل".
في هذا السياق سئل عاشق المشي الذي يلهمه على الكتابة، ذات مرة "ما الفيلسوف؟"، فأجاب في كلمة بقوله: "مسافر". وعن دور الفيلسوف يقول: "نحن عامون. أول شعار للفيلسوف هو أن يلم بكل شيء. الفلسفة هي الموسوعية. وليس التعليق اللانهائي، وليس النقاش المسترسل".
يكتشف القارئ لبعض أعمال مشيل سير أن الراحل حاول جاهدا تقديم طريقة غير نموذجية في التفلسف، طريقة تعمل على ازدراء المنهج. وهو ما يرفضه، معتبرا أن الانخراط المباشر في التفلسف أسلوب قديم.
وضح الرجل موقفه في حوار مع مجلة فرنسية بقوله: "الحكاية عكس العلم، تتجنب تقطيع الواقع إلى قطع مختلفة. وأنا أنتمي إلى هذا التقليد، ففضلا عن ذلك، لا يتم التباهي بالقراءات. المعرفة موجودة هنا، لكن من العبث عرضها من خلال الاستشهادات والملاحظات الهامشية أسفل الصفحة، والفهارس الكثيرة... لست بحاجة إلى التباهي بكل ما قرأته، ما دمنا نتوافر حاليا على ويكيبيديا لكل التعليقات والحواشي".
في معرض هذا الجواب، يثار سؤال آخر حول كفاءة الفيلسوف؟ هذا الأخير ينبغي بحسب سير أن يلعب دور رتق ما اقتطع بشكل اصطناعي. ويعطي مثالا تفسيريا بقوله: "الفلسفة تشتغل في كل المجالات، فهي وسيلة نقل كل الميادين؛ تقوم برحلة حول العالم، وحول العلوم، وحول الإنسان، وهذا هو تفردها، وهو ما يشكل أيضا قوتها في عالم اليوم. فالمناخ يتطلب حقولا عديدة (الفيزياء، الكيمياء، علم الأحياء، الكيمياء الحيوية، علم الكونيات، الاقتصاد... محاولة حل مشكلة بيئية لا محالة".
تفاؤل الفيلسوف بهذا العصر لا يثنيه عن إطلاق سهام النقد على الجامعة إحدى أعرق المؤسسات فيه، معتبرا أن واحدة من "أكبر المشكلات اليوم هي أن الجامعة صنعت نوعين من المعتوهين: الأدبيين من جهة، وهؤلاء مثقفون، لكن جاهلون، والعلميين من جهة أخرى، وهم أهل العلم، لكن غير مثقفين".
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من ثقافة وفنون