Author

ضبط الإنفاق بين إدارتي الجودة والمخاطر .. «الكهرباء» حالة

|
عضو اللجنة المالية والاقتصادية ـ مجلس الشورى


قبل نهاية شهر رمضان المبارك تعرضت شبكة الكهرباء في المنطقة الجنوبية إلى تعطل واسع النطاق شمل عدة محافظات، واستغرق حل المشكلة في بعضها إلى أكثر من يومين، وبالطبع فإن يومين مدة كبيرة، مع كل متطلبات الحياة العصرية والاتصال، لقد أمضت عديد من القرى ساعات طويلة في ظلام دامس، وتعرضت كثير من الأجهزة إلى التلف بسبب تلك الأعطال، وفي المقابل كانت شركة الكهرباء تبذل قصارى جهدها وأفضل مواردها لحل المشكلة، ولكن كانت تقف أمامها صعوبات جمة، ليس أقلها حجم نقل وتركيب مولدات تم استدعاؤها من خارج المنطقة. بالطبع فإن حالة مثل هذه تستدعي الدراسة وتمكين المؤسسات البحثية من جمع المعلومات حتى يمكن من خلالها فهم الأسباب الكامنة خلف تعرض الشبكة لمثل هذه المخاطر، واحتمالية حدوثها وتأثيراتها. وفي هذا المقال إشارات فقط ويصعب تمام التأكيد على أي موضوع ما لم تتم دراسة شاملة وموضوعية، ولكن يكفي من القلادة ما أحاط بالعنق، ويكفينا الاستفادة من التجربة لطرح موضوع هذا المقال وهو المخاطر والجودة لضبط الإنفاق.
ما زلت أقول وأؤكد أن التحول الجذري إلى أسلوب إدارة المخاطر يجب أن يكون مرتكزا من مرتكزات التحول الشامل في الإدارة والرقابة والتقييم في المملكة، خاصة إذا كان الاقتصاد السعودي في هذه المرحلة يتجه إلى سياسات من شأنها ضبط الإنفاق. لقد أكدت مرارا وتكرارا، وهنا أعيد أن إدارة الجودة الشاملة ومفاهيم التميز المؤسسي لم تعد مناسبة كفعل استراتيجي؛ ذلك أنها تقود الى كوارث من شأنها تدمير الاستدامة الاقتصادية، وأخطر ما تتسبب فيه إدارة الجودة الشاملة هو الهدر في الموارد، كما أنها تفشل تماما في مراحل ضبط وترشيد الإنفاق، فالجودة الشاملة التي ترتكز مفاهيمها على أساليب مثل بطاقة الأداء المتوازن، وترفع شعارات التحسين مستمر يجعل تطبيقها عملية من النمو المضطرد وغير المنضبط في النفقات، وتوجيهها نحو شكليات هامشية مثل بيئة العمل، وشكل المكتب، وديكورات استقبال المستفيد، بينما جوهر العمل يئن من النقص والفوضى، كما أنها تتجاهل اتجاهات المنافسة وتنغلق على نفسها، ورؤيتها، وتتجاهل عن عمد مفاهيم الندرة الاقتصادية، إضافة إلى أنها تقدم معلومات تضلل صاحب القرار حول رضا طلب المستفيد، بينما ذلك الرضا قد تمت برمجته من قبل المؤسسة نفسها، ولك في "نوكيا" مثال. كما أن كل مستفيد يرغب في أن تصله أعلى الخدمات بلا أي مقابل، وهذا ما تصل إليه الجودة عند تعظيمها وفقا لمفاهيم رضا العميل، فهل هذا الرضا مفيد للمؤسسات الاقتصادية؟ هنا تكمن أخطر نتائج إدارة الجودة.
في المقابل نجد إدارة المخاطر تقدم الفطنة الاقتصادية محل التهور، وتضع التوقعات والمستقبل في منظور صاحب القرار، وتدرس المستقبل أكثر من اهتماماتها بالتاريخ، وتقدم المنافسة كخطر، والفرصة التي قد تضيع كخطر، وتوزع المخاطر على الأهداف، وتجعل الجميع يشعر بالتهديد؛ ما يحفز العمل للبقاء والاستدامة، ولكن أهم نتائجها قدرتها على تقديم معلومات وافرة عند ضبط الإنفاق، فالمخاطر ترسم صورة بانورامية عن توزيع الموارد، فالموارد التي نستخدمها إما أن تكون موارد للإنتاج، وإما موارد للدعم والحماية والرقابة، وقد قدمت لذلك مثالا شاملا في مقالات سابقة، لكن من المهم عند بدء خطط ضبط الإنفاق أن تقوم المؤسسة بدراسة المخاطر وتوزيعات الموارد حول كل هدف، ثم تقوم بعد ذلك بتخفيض الموارد بناء على مستويات الرغبة في المخاطرة، عند ذلك فقط تستطيع أن تتجنب المؤسسات انقطاع الأعمال مثل ما حصل في شركة الكهرباء.
للإيضاح، فإن مفاهيم إدارة المخاطر تعمل على اكتشاف التهديدات والفرص كافة التي تحيط بكل هدف من أهداف المؤسسة سواء الأساسية أو الفرعية التي قام مانحو الأموال بوضعها، فمثلا هدف تزويد منطقة ما بالطاقة الكهربائية، يتطلب التضحية بموارد اقتصادية كبيرة لبناء المحطات وأجهزة توليد الطاقة وشبكات التوزيع، إضافة إلى موارد بشرية متميزة من مهندسين ومساعدين، ومواقع جغرافية مناسبة، وهذه الموارد الإنتاجية تتطلب موارد أخرى لمواجهة مخاطر الانقطاع مثل الصيانة الدورية، وتوفير الوقود في الوقت والشكل المناسبين، ودراسة الأحمال وقت الذروة، والحماية من تأثير العواصف، وهناك بعد كل هذا موارد أخرى تصرف على الموارد البشرية المساعدة، مثل الحسابات، والتمويل، وغيرها، وحتى المراجعين الداخليين، وموظفي إدارة المخاطر والالتزام، كل هذه الموارد التي يتم إنفاقها يتم توزيعها بكفاءة إذا تم تحديد الخطر الذي يقوم كل عنصر من هذه الموارد بالحماية منه، والشرح هنا قد يطول، لكن المقصود هنا، أنه عندما نضع هدفا فإننا نحدد أولويته، ونحدد مخاطره ثم نرسم الموارد من حوله وفقا لما نسميه الرغبة في المخاطرة.
توزيع الموارد حول الهدف يجب أن يتم بالتناسب العكسي مع الرغبة في المخاطرة، كلما كانت رغبتك في المخاطر أقل يجب عليك وضع موارد أكبر في خدمة الهدف، والعكس صحيح، ويمكن الآن فهم كيف تخدم إدارة المخاطر مفاهيم ضبط الإنفاق، فعندما تقرر ضبط الإنفاق من خلال تخفيض بعض الموارد، خاصة البشرية فإن عليك أن تدرس حجم تأثير هذا التخفيض في قدرتك على تحمل المخاطر ومواجهة التهديدات والفرص، فالمغامرة مثلا بمنح الشيك الذهبي لمهندسين من أصحاب الخبرة؛ أملا في تخفيض النفقات، وضبط الإنفاق قد يعرض إلى مخاطر كبيرة، عندما تتعرض الآلات إلى التعطل والخدمات إلى التوقف ثم لا تجد من بين مواردك ما يعيد كل ذلك إلى العمل بأقل تكلفة، لتجد نفسك قد أنفقت أضعاف ما توقعت توفيره فقط لتعود الآلات للعمل بعد التعطل. لذا أقول إن عصر إدارة الجودة قد ولى، واليوم نحن أمام عالم إدارة المخاطر، وسيبقى في المستقبل من يجيد هذه المفاهيم جيدا، ولكم في الصراع التجاري بين "هواوي" و"أبل" على الجيل الخامس عبرة، لقد تعلمت "أبل" من أخطاء "نوكيا"، ولهذا مقال.

إنشرها