المشراق

الرواية الشفهية .. تاريخ ما أهمله التاريخ

الرواية الشفهية .. تاريخ ما 
أهمله التاريخ

الرواية الشفهية .. تاريخ ما 
أهمله التاريخ

الرواية الشفهية .. تاريخ ما 
أهمله التاريخ

وصف التاريخ الشفهي بأنه "تاريخ ما أهمله التاريخ"، ويتفق العارفون على أنه رافد رئيس من روافد التاريخ البشري. على أن هناك من المؤرخين والباحثين من أهمل التاريخ الشفهي والرواية الشفهية نظرا لسيطرة التاريخ المكتوب والنصي عليه. وإذا ما عدنا إلى الوراء فسنجد أن تدوين التاريخ اعتمد بشكل كبير على الرواية الشفهية، وأحد أبرز الأمثلة على ذلك تاريخ الطبري الذي يعد أهم كتب التاريخ العربي. إلا أنه بمرور القرون قل الاعتماد على الرواية الشفهية، بل أهملها بعض المؤرخين والباحثين إهمالا كاملا حتى أصبحت هناك مدرسة تاريخية لا تعترف بهذا النوع، ما أدى إلى ردة فعل لمدرسة تاريخية أخرى ترى في الرواية الشفهية أهمية كبرى في كتابة التاريخ. وإذا نظرنا إلى الحالة السعودية فإن الدكتور سعد الصويان يعد واحدا من رواد الاهتمام بالمرويات الشفهية، وممن اعتنى بدراستها عناية كبيرة، بل عد أهم أكاديمي في العالم العربي يهتم بهذا المجال، وتحظى بحوثه ومؤلفاته في هذا الموضوع بقيمة عالمية.
كتب المرحوم الدكتور عبد الله بن إبراهيم العسكر مبحثا مفيدا عن علاقة التراث الشفهي بالتاريخ قال فيه "إن تخلي المؤرخين عن المصادر الشفهية قد ترك للمختصين في الفولكلور والأنثروبولوجيا الميدان واسعا، ما جعل تلك المصادر تنأى عن بعدها التاريخي، ولم يعترف المختصون في تلك العلوم بأهمية التاريخ في دراسة التراث الشفهي، إلا في مطلع عقد الخمسينيات من القرن الميلادي الماضي، ولعل السبب هو سيطرة علماء الفولكلور على المصادر الشفهية، وكانوا يطلقون على تلك المصادر اسم الأساطير، والخرافات الوعظية، وكانوا يرونها تدل على المعنى الفلسفي والمغزى التعليمي، أكثر من كونها تحمل أي تفاصيل تاريخية، بل وصل الأمر ببعضها على التصريح بأن المصادر الشفهية لا تحتوي على حقائق تاريخية. إن هذه الأقوال وأمثالها هو ما أخر الاستفادة من التراث الشفهي باعتباره مصدرا من مصادر التاريخ المتعددة، ومع هذا لعلي لا أبالغ إذا قلت: إن التراث الشفهي وثيق الصلة بالتاريخ، ذلك أن الأول يعد مرآة المرحلة الحضارية التي يعشيها الناس، وهو يعبر عن أفكارهم وعواطفهم، كما أنه يصور شيئا غير يسير من النظم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية السائدة، بل إن بعض الباحثين يعتقد أن التاريخ المدون ولد في أحضان التراث الشفهي.
إن مكونات التاريخ الشفهي هي مكونات التراث الشعبي، من مثل: الحكايات، والقصص، والسير الشعبية، والأمثال، والحكم، والغناء، والشعر، فهل يمكن والحال هذه أن يتجاهل المؤرخ التراث الشفهي؟ أظن أن الإجابة عن مثل هذا السؤال هي بالنفي؛ إذ إن المأثورات الشفهية يمكن أن تعزز الثقة ببعض النواحي التاريخية، مع العلم أن بعض العلماء يرى أن العكس هو الصحيح؛ إذ يجب في نظرهم أن نفحص التراث الشفهي من منظور التاريخ المدون أو الآثار أو اللغة.
لقد ذهب بعض المؤرخين المشتغلين بالتراث الشفهي إلى ضرورة التعامل معه بطريقة تختلف عن بقية العلماء المتخصصين في علوم أخرى، من هنا قدم باور تقسيمه للمأثور الشفهي من منظور تاريخي، واقترح تقسيمه إلى قسمين: الأول: يشمل كل المصادر المعروفة أو الثابتة أو المتغيرة الصحيحة أو المحرفة، أما الثاني: فهي المصادر التي لم يعرف مؤلفوها، التي انتشرت في المجتمع بطريقة غير معروفة من مثل: الحكايات الشعبية، والأساطير، والملاحم، والسير، والنوادر والأمثال، والأغاني الشعبية. ولقد أضاف آخرون الإشاعة، وهي في نظر الباحث قد تحمل شيئا من التاريخ، ولكن شريطة أن تعززها مصادر تاريخية معروفة، أما الملاحم والسير والنوادر؛ فإنه يحسن استقصاء وسيلة نقلها، ويفضل استبعادها إذا احتوت على تناقضات، أما الأغاني فهي في نظر كثيرين دعاية مقصودة قد تضر بالتاريخ أكثر مما تنفعه.
لقد كثر المؤرخون المشتغلون بالتراث الشفهي، ويأتي على رأسهم فاج، وأليفر اللذان استخدما المأثورات الشفهية؛ باعتبارها مصدرا تاريخيا، ويرى من درس أعمالهما أنهما لم يطورا نظرية أو طريقة للتعامل مع المأثور الشفهي في ميدان التاريخ؛ كما فعل يان فانسينا فيما بعد. لقد عمل يان فانسينا على إبراز القيمة التاريخية للتراث الشفهي، والأنواع الأخرى من التراث الشعبي في كتابه الذائع الصيت الموسوم بالمأثورات الشفهية: "دراسة في المنهجية التاريخية".

السكران وجدعان بن مهيد
يرى البعض أن القصص الشعبية قد تحمل شيئا من التاريخ، ولكن شريطة أن تعززها مصادر تاريخية معروفة، وهو كلام منطقي، إلا أن بعض هذه القصص والروايات الشفهية قد تحمل معلومات أكثر دقة مما هو مدون في بعض التواريخ، والأمر يعود إلى المصدر نفسه سواء كان راويا يتحدث مشافهة، أو كاتبا للتاريخ، فمتى ما كان هذا المصدر يملك أدوات الفن فإنه سيكون أكثر أهمية. وسأورد مثالين يدلان على قيمة وأهمية الرواية الشفهية:
أجرى الدكتور عبد الرحمن الشبيلي مقابلة تلفزيونية عام 1396هـ مع الراوية علي بن فهد السكران، وتحدث هذا الراوية في مواضيع متعددة، وذكر حوادث تاريخية معتمدا على ذاكرته. وقد قارنت بين روايته الشفهية، وبين ما هو مدون في بعض الكتب فوجدت روايته أصوب وأصح.
وفي التاريخ نفسه تقريبا، أقصد عام 1396هـ سجل الأمير محمد الأحمد السديري أشرطة صوتية جمع فيها حداء الخيل وما يتعلق به من أخبار وقصص، وهي التي طبعت بعد وفاته بنحو 30 عاما تحت عنوان "هكذا يقول الأجداد على صهوات الجياد"، ويعرف اختصارا باسم "الحداوي". وروى السديري في أشرطته هذه خبرا يتعلق بالشيخ جدعان بن نايف بن جغثم بن مهيد، وهو شيخ وفارس وكريم ذائع الصيت، كبير الشأن. ينقل أوبنهايم عن الرحالة ساخاو أن جدعان أصبح قائمقام العربان في حلب ونال لقب البيك. خاض المترجم معارك كثيرة، وقتل في إحداها أواخر القرن الثالث عشر الهجري.
يقول السديري: "يروى أن جدعان بن مهيد رفض أن يدفع الضريبة للأتراك، ففاجأوه بجنود كثيرة طوقت مضاربه للقبض عليه، فهم بالهرب بناء على اقتراح من جماعته على أن يخلصوا أنفسهم من الترك بالسلم، وفي استعداده للهرب لمحته صبية ونادته: كيف تتركنا يا شيخنا للعدو، وحاولت النساء إسكاتها دون جدوى، فلوى عنان جواده وحدا بهذين البيتين، ثم أهاب بقومه للدفاع، فاستماتوا واستبسلوا للدفاع عن حياضهم وشيخهم، فكانت هزيمة شنيعة على الترك:
"هبيل يا متاجر بعمرك
وين انت عن والي القدر

الموت الى دارك لقاك
لو انت في سور الحجر"

وهذه الأحدية مع خبرها وقصتها لم ترد في مصدر عربي آخر. وكان من حسن الحظ أن وجدت ما يؤيد هذه الرواية في مصدر متقدم ألف زمن جدعان بن مهيد، وهي رحلة الليدي آن بلنت التي عنوانها "قبائل بدو الفرات" وقد ترجمها إلى العربية الأستاذ أسعد الفارس والأستاذ نضال خضر معيوف، وصدرت الطبعة الأولى عن دار الملاح للطباعة والنشر سنة 1412هـ 1991.
في هذا الكتاب أوردت المؤلفة خبر معركة بين جدعان بن مهيد والترك. تذكر آن بلنت أن العواصف والثلوج احتجزتهم شهرا كاملا في مدينة حلب، وذلك في شتاء عام 1877– 1878 وتذكر أنه أقسى شتاء في تاريخ سورية، ثم تعرج على الحديث عن السيد سكوت قنصل بريطانيا في سورية، ومن ضمن ما قالته هذه الفقرات: "لم تكن للقنصل خبرة كافية عن قبيلة شمر، ولا بالمكان الذي تستوطنه شرقي النهر ولكنه على صلة وثيقة بعنزة، وهو الذي قدم لهم خدمات جليلة وكثيرا ما كان يتوسط بينهم وبين الحكومة التركية، فوعدنا أن يعرفنا بهم درءا للمخاطر وتحسبا من أجل المستقبل. وصديقنا القنصل حكواتي من الطراز الأول فقد بدت قصصه عذبة كقصص مواطنه والتر سكوت وقد أدهشنا بقصصه عن جدعان أحد شيوخ عنزة الذي وصفه بأنه داهية البادية. وتبين لنا فيما بعد أن جدعان لم يكن ينتمي إلى عائلة مشهورة ولكنه بدا لنا جنديا مغامرا شق طريقه بطريقة غامضة، واكتسب مهارة حربية وشجاعة ومواهب بوأته لأن يصبح القائد الأعلى في قومه وركنا من أركان عنزة، ونادرا ما نجد قصة غير صحيحة تروى عن هذا الرجل الذي دخل في مسرح رحلتنا إلى الشرق. وروى لنا القنصل أنه تعرف على جدعان عام 1857 في الوقت الذي كان فيه عصمت باشا واليا على حلب وكان رجلا عسكريا طموحا. أراد عصمت باشا أن يجرد حملة عسكرية لتأديب الفدعان من عنزة، والفدعان بقيادة جدعان كانوا يقيمون في سهل الملح أو المالحة على الفرات، وثقة بالنفس وطمعا بإظهار المهارة العسكرية طلب عصمت باشا من السيد سكين القنصل الإنجليزي الانضمام إلى الحملة كشاهد أوروبي على ما يفعل. كان عصمت باشا يقود الحملة بنفسه وفيها كوكبتان من الخيالة وسرية مشاة تحمل البنادق ترافقهم أربعة مدافع مقطورة بواسطة البغال. كان على الحملة أن تسير 60 ميلا، وأن تنام في العراء...". وتمضي آن في حديثها إلى أن تقول: "فبدت مضارب الفدعان التي أسرعت للرحيل محدثة ضوضاء وجلبة عالية. إنها تعبر النهر بأقصى سرعة، وقد فوجئت بوجود الحملة التي ظنوا أنها عادت من حيث أتت لأنها فقدت خيولها. كان مقاتلوا عنزة ينسحبون بأقصى سرعة، باستثناء قطيع من الإبل يصل تعداد جماله إلى خمسة آلاف جمل يبدو أنها تركت دون حماية. فاعتبر الباشا القطيع في حوزته ولذلك زحف إلى أسفل السهل إلى نقطة على شكل تل صغير عده الباشا موقعا استراتيجيا يصلح لنصب المدافع، ثم أرسلت مجموعة من الخيالة لتمنع الجمال من انسحاب محتمل باتجاه الفرات. نفذت المناورة بدقة وحصرت الجمال. وبينما كانت الأنظار تتجه إلى الإبل ظهرت مجموعة من ثمانية خيالة يعبرون النهر الذي كان منخفضا، وقبل أن يتنبه الملازم المسؤول لهذا الخطر انطلق قائد المجموعة يعدو على ظهر جواده فطعن الملازم برمحه وتبعثر الجنود من هول المفاجأة، ثم اتجه الجمع كله – البدو والجنود – باتجاه التلة حيث المقر الرئيس للمشاة والمدفعية. فأمر الباشا رماة المدفعية بإطلاق النار وهو نفسه كان يصوب مدفعا، ونتيجة للرمي الخاطئ أردى أحد الجنود أرضا. والأهم من ذلك كله هيجان الإبل بسبب قصف المدافع فتدافعت فاقدة الوعي وهي تطأ بقسوة كل من تصادفه بينها وبين النهر في الوقت الذي أفلت فيه البدو ونجحوا في قيادة القطيع كله عبر النهر، وهم يهتفون كالمعتاد: ها.. هوه. كان قائد حملة الإنقاذ هو جدعان نفسه الذي بمهارته وشجاعة رجاله أرجع الحملة فاشلة، بعد أن فقدت اثنين من رجالها. وعاد عصمت باشا إلى حلب دون أي تذكار للشجاعة الذي حرص على تحقيقه دون نتيجة". ثم تستطرد آن بلنت لتذكر العلاقة التي ربطت بين جدعان والقنصل البريطاني، ودور القنصل في استصدار عفو من الدولة العثمانية عن جدعان. ويبدو أن الهتاف الذي ورد في النص السابق الذي سمعه القنصل البريطاني ورواه لآن بلنت لم يكن سوى الأحدية التي أوردها الأمير محمد السديري. أما قولها إن جدعان لم يكن من أسرة مشهورة فيبدو أنه غير دقيق لأن المعروف عند الرواة أن لأبيه شهرة كبيرة قبله، ووالده هو أول من لقب بمصوت بالعشا لكرمه، وربما كان لأجداد جدعان شهرة أيضا. من المؤكد أن السديري لم يطلع على ما كتبته آن بلنت لأن كتابها لم يعرف ويترجم إلا بعد وفاته بـ22 سنة، كما أن روايته لا تحمل التفاصيل التي أوردتها، وتزيد عليها برواية الشعر. لو لم تدون آن بلنت هذه القصة لبقيت الرواية الشفهية هي المصدر الوحيد لها، وهذا يدل على القيمة العلمية للمرويات الشفهية، وهذ يدفعنا إلى مزيد من الاهتمام بهذا الرافد التاريخي والمعرفي.
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من المشراق