المشراق

التمساح وعصفور القطقاط .. مصلحة مشتركة

التمساح وعصفور القطقاط .. مصلحة مشتركة

التمساح وعصفور القطقاط .. مصلحة مشتركة

التمساح وعصفور القطقاط .. مصلحة مشتركة

التمساح وعصفور القطقاط .. مصلحة مشتركة

أورد أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ (ت 255هـ) في كتابه الشهير "الحيوان" قصيدة بشر بن المعتمر (ت 210هـ) التي مطلعها:
الناس دأبا في طلاب الغنى
وكلهم من شأنه الختر

وهي قصيدة طويلة تناول فيها عالم الحيوان وما فيه من صنوف وأشكال وأعاجيب، ويذكر عز الدين إسماعيل أن هناك من يرى أن هذه القصيدة أوحت إلى الجاحظ بتصنيف كتاب "الحيوان". وبعد أن عدد بشر بن المعتمر ألوان الطير والحيوان، متخذا من ذلك دليلا على حكمة الخالق، عرج بعد ذلك على بعض المذاهب الإسلامية فهاجمهم وهجاهم معتبرا أنهم أصل البلاء. ومن ضمن هذه القصيدة يقول شاعرنا بشر:
وتمسح خلله طائر
وسابح ليس لها سحر

ويشرح الجاحظ هذا البيت قائلا: "فالتمساح مختلف الأسنان، فينشب فيه اللحم، فيغمه فينتن عليه، وقد جعل في طبعه أن يخرج عند ذلك إلى الشط، ويشحا فاه لطائر يعرفه بعينه، يقال إنه طائر صغير أرقط مليح. فيجيء من بين الطير حتى يسقط بين لحييه ثم ينقره بمنقاره حتى يستخرج جميع ذلك اللحم، فيكون غذاء له ومعاشا، ويكون تخفيفا عن التمساح وترفيها. فالطائر الصغير يأتي ما هنالك يلتمس ذلك الطعم، والتمساح يتعرض له، لمعرفته بذلك منه. وأما قوله: "وسابح ليس له سحر": فإن السمك كله لا رئة له. قالوا: وإنما تكون الرئة لمن يتنفس. هذا، وهم يرون منخري السمك، والخرق النافذ في مكان الأنف منه، ويجعلون ما يرون من نفسه إذا أخرجوه من الماء أن ذلك ليس بنفس يخرج من المنخرين، ولكنه تنفس جميع البدن".
ويعلق الباحث عادل محمد الحجاج في كتابه "موسوعة أعلام العرب في علوم الحيوان والنبات" على هذا النص بقوله: "وهذه مشاهدة صادقة عن تمساح النيل، والطائر اسمه الزقزاق المصري "بلوفيانس أنجيتوس"، وقد أخذ يقل في مصر بعد اختفاء التمساح منها". ويسمى هذا الطائر بعصفور التمساح لعلاقته المشار إليها به.
وفي كتاب "المعرب عن بعض عجائب المغرب" يقول أبو حامد الغرناطي (ت 565هـ): "وفي مصر طير كالعصافير في رؤوسها أعظام نابتة كمنقار العصفور يعرف بعصفور التمساح. فيدخل أولئك العصافير في معدة التمساح ويأكلون ذلك العشاء وتخرج طائفة وتدخل أخرى حتى لا يتركون في معدته شيئا من ذلك العشاء والنحو الذي يجتمع في معدته. وربما أطبق على بعضهم فيطعنون في معدته بتلك العظام التي في رؤوسهم حتى يفتح فمه فتخرج أولئك العصافير من بطنه".
ويورد القزويني (ت 682هـ) في "عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات" تفصيلات أخرى حول هذا العصفور فيقول عند حديثه عن التمساح: "وإذا أكل يبقى في خلل أسنانه شيء يتولد منه الدود، فيخرج من الماء ويفتح فاه مستقبلا الشمس فيأتيه طائر مثل العصفور ويدخل فاه ويلتقط ما في خلل أسنانه، فإذا رأى صيادا رفرف وصاح وأخبر التمساح حتى يرجع إلى الماء، فإذا أحس التمساح أنه نقى خلال أسنانه أطبق فاه على الطائر ليأكله، وقد خلق الله تعالى على رأس ذلك الطائر عظما أحد من الإبرة فيضرب به حنك التمساح، فيرفع حنكه فيطير الطائر".
ويذكر كمال الدين الدميري (ت 808هـ) اسم هذا الطائر في كتابه الشهير "حياة الحيوان الكبرى"، ويقول عند حديثه عن التمساح: "ومن عجائب أمره أنه ليس له مخرج فإذا امتلأ جوفه بالطعام خرج إلى البر وفتح فاه، فيجيء طائر يقال له القطقاط فيلقط ذلك من فيه. وهو طائر أرقط صغير يأتي لطلب المطعم، فيكون في ذلك غذاء له وراحة للتمساح، ولهذا الطائر في رأسه شوكة، فإذا أغلق التمساح فمه عليه نخسه بها فيفتحه. وسيأتي ذكر هذا الطائر إن شاء الله تعالى". وكذلك الأبشيهي (ت 852هـ) يورد الاسم نفسه لهذا الطائر في كتابه "المستطرف في كل فن مستظرف"، وربما تابع الدميري. ويقول الأبشيهي عن التمساح: "حيوان عجيب على صورة الضب له فم واسع وفيه 60 نابا وقيل 80 وبين كل نابين سن صغيره، إذا أطبق فمه على شيء لا يفلته حتى يخلعه من موضعه، وله لسان طويل وظهر كالسلحفاة ولا يعمل الحديد فيه وله أربعة أرجل وذنب طويل، وهو لا يوجد إلا بنيل مصر، وقال المسافرون إنه يوجد ببحر الهند وطوله في الغالب ست أذرع إلى عشر في عرض ذراعين أو ذراع، ويقيم في البحر تحت الماء أربعة أشهر لا يظهر، وذلك في زمن الشتاء ويتغوط من فيه في الغالب ويحصل في فيه الدود فيؤذيه فيلهمه الله تعالى فيخرج إلى بعض الجزائر ويفتح فاه فيرسل الله تعالى له طيرا يقال له القطقاط فيدخل في فيه فيأكل ما فيه من الدود فيحصل له راحة؛ فعند ذلك يطبق فمه على الطير ليأكله فيضربه بريشتين خلقهما الله تعالى في جناحيه كريشة الفصاد فيؤلمه فيفتح فاه فيخرج ولذلك يضرب به المثل فيقال جازاه مجازاة التمساح".
وقادني هذا النص إلى كتب الأمثال فرجعت إلى "جمهرة الأمثال" لأبي هلال العسكري (ت 395هـ)، فوجدته يقول عند حديث عن مثل جزاء سنمار: "والناس يقولون في هذا المعنى: جازاه مجازاة التمساح، ويحكون أن التمساح يأكل اللحم، فيدخل في خلال أسنانه، فيفتح فاه، فيجئ طائر فيسقط عليها، فيخللها ويأكل اللحم، فيكون طعاما للطائر، وراحة للتمساح، فربما ضم التمساح فاه على الطائر فيقتله. وروي فيه خرافة فتركتها".
في كتابه "الإرشاد إلى ما وقع في الفقه وغيره من الأعداد" يكرر ابن عماد الأقفهسي (ت 867هـ) المعلومات السابقة وأن اسم الطائر القطقاط، وأن في ظهر جناحي الطائر شوكتين. وتكرر الكلام نفسه في بعض كتب الفقه مثل شرح الزرقاني (ت 1099) على مختصر خليل، وحاشية البجيرمي (ت 1221هـ) على الخطيب، وكتاب "حاشية إعانة الطالبين على حل ألفاظ فتح المعين"، لأبي بكر الدمياطي الشهير بالبكري (ت 1310هـ).
هذه المعلومات التي يرجع عمر بعضها إلى 1200 عام، لن يجدها الباحث سوى في حضارة واحدة هي الحضارة العربية. وما كتبه الجاحظ وعلماء العرب تصوره اليوم وتطوره الحضارة الغربية، وحين تشاهد فيلما وثائقيا عن الحيوانات من أفلام قناة ناشيونال جيوغرافيك لا بد أن تعود بذاكرتك إلى كتب الجاحظ والقزويني والدميري وغيرهم.
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من المشراق