FINANCIAL TIMES

بولندا أرض المناجم وظفت 400 ألف شخص .. هل تفطم نفسها عن الفحم؟

 بولندا أرض المناجم وظفت 400 ألف شخص .. هل تفطم نفسها عن الفحم؟

 بولندا أرض المناجم وظفت 400 ألف شخص .. هل تفطم نفسها عن الفحم؟

عندما بدأت مجموعة تعدين في التنقيب بالقرب من منزل أيرينوس جورنيوك في إيميلين، وهي بلدة صغيرة في القلب الجنوبي الصناعي لبولندا، لم يول اهتماما كبيرا لذلك.
يتذكر جورنيوك: "في البداية كنت أقول إنها ليست أرضي، وليست مشكلتي".
لقد كان على خطأ. بعد بضعة أشهر، كشفت شركة بي جي جي PGG، مجموعة التعدين التي تسيطر عليها الدولة البولندية، عن خطط لتوسيع منجم في إيميلين. عندما نظر جورنيوك إلى تقييم التأثير، لم يكن بإمكانه تصديق عينيه: في أسوأ الحالات، يمكن أن تهبط الأرض التي بنى عليها منزله بما يصل إلى ستة أمتار.
مع انتشار أخبار خطط شركة بي جي جي، نظم مسؤولو البلدة اجتماعا ليبينوا للسكان المحليين القلقين الآثار المترتبة على التوسع.
يقول جورنيوك: "طلب أحدهم من متحدثة من الجامعة أن تعرض العواقب بلغة بسيطة يمكن أن يفهمها الناس".
وقالت السيدة، "ستة أمتار ليست سوى تقدير أولي. بعض الأماكن قد تهبط أكثر، وبعضها قد تهبط أقل".
الأسوأ من ذلك كله، تحت المدينة لدينا بحيرة ضخمة من المياه الطبيعية. إذا حدث خطأ ما في تعدين الفحم، فإن المياه يمكن أن تنضب، ومن ثم يمكن أن تكون العواقب المترتبة على إيميلين أسوأ بكثير.
لقد كانت تلك هي اللحظة التي شعر فيها الناس بالذهول وبدأوا في السؤال: ماذا يمكننا أن نفعل حيال ذلك؟
مجموعة من السكان المحليين صعقت بسبب ما سمعوه وضموا صفوفهم، وبالاشتراك مع سلطات المدينة، شنوا حملة لمنع التوسع. بالنسبة للنشطاء، الحملة معركة حامية لحماية ممتلكاتهم.
كما أنها نموذج مصغر للحجج الأرحب التي تطلق في أنحاء هذا البلد الواقع في أوروبا الوسطى، في الوقت الذي تبدأ فيه ببطء مناقشة شيء لم يكن من الممكن تصوره في يوم من الأيام: ما إذا كان بوسع البلد أن يفطم نفسه عن الفحم وكيف؟
كان الوقود الأسود يدعم صناعة بولندا، وعلى مدى عقود كان الذين يستخرجونه من الأرض مكرمين بصفتهم طليعة التقدم الاقتصادي.
لا يوجد بلد آخر في الاتحاد الأوروبي يحرق فحما حجريا أكثر من بولندا عدا ألمانيا، التي تحرق كميات أكبر من ليجنايت، نوع من الفحم الحجري، وهو أكثر أنواع الفحم تلويثا.
حتى في الوقت الحاضر، يتم توليد نحو 80 في المائة من الكهرباء في بولندا من الوقود الأحفوري.
مع تضاؤل الاحتياطيات وتزايد قلق المواطنين حول هوائهم القذر وريفهم الذي تعرض لأضرار كبيرة، تثار أسئلة حول الوقود الذي لطالما كان لعنة بيئية، وفي السنوات الأخيرة، كان عبئا اقتصاديا في كثير من الأحيان.
تقول إيلونا جدراسيك، من مجموعة البيئة: "إذا نظرت إلى استطلاعات الرأي، فإن الدعم بين البولنديين للطاقة المتجددة هو إلى حد بعيد أعلى مستوى من أي مصدر للطاقة، والخوف من تأثير تغير المناخ يزداد. الاقتصاد في حالة جيدة أيضا. إنها لحظة جيدة للسياسيين للابتعاد عن الفحم وتحديد موعد لذلك".
حتى الآن لم يظهر حزب القانون والعدالة الحاكم في بولندا أي اهتمام باتخاذ مثل هذه القرارات المتطرفة.
نظرا لارتيابهم الشديد في الكرملين واستخدامه لإمدادات الغاز كسلاح سياسي في أوكرانيا، يرى استراتيجيو حزب القانون والعدالة أن الفحم هو الضامن لاستقلال الطاقة البولندية.
مثل معظم أسلافه، فإن المعسكر الحاكم لديه أيضا ليست لديه شهية لاستعداء نقابات الصناعة القوية.
النتيجة هي أنه في الوقت الذي يهدف فيه الاتحاد الأوروبي إلى جعل الكربون محايدا بحلول عام 2050، تبني وارسو محطات جديدة لتوليد الطاقة من الفحم، وليست لديها خطط لحرق كميات أقل من الوقود قبل عام 2030.
وحتى بحلول عام 2040، تتوقع أن تحصل على نحو ثلث الكهرباء لديها من المواد الأحفورية الأكثر تلويثا.
ألقيت هذه التناقضات في دائرة الضوء العالمي عندما استضافت بولندا محادثات المناخ COP24 في كاتوفيتشي عاصمة الفحم فيها، العام الماضي.
عندما اجتمع مندوبون من جميع أنحاء العالم للحد من ظاهرة الاحتباس الحراري، اختارت وارسو مجموعات التعدين والطاقة من بين الشركاء الرئيسين للحدث.
عشية انعقاد المؤتمر، كشفت وزارة الطاقة النقاب عن استراتيجية تدل على أن محطات الرياح على اليابسة سيتم التخلص منها بحلول عام 2040.
وقبل يومين من انعقاد القمة، وعد أندرزي دودا، رئيس بولندا، في مهرجان لعمال المناجم أنه: "لن يدع أي شخص يغتال التعدين البولندي".
تقع إيميلين على بعد نحو 20 كيلومترا جنوب شرقي كاتوفيتشي، ويبلغ عدد سكانها نحو تسعة آلاف نسمة، محاطين بالصناعة التي يحرص دودا على الحفاظ عليها.
الشاحنات التي تحمل الأنقاض تدمدم يوميا في شارعها الرئيس. خارج المدينة، تنتشر حواجز المنجم في المنطقة الريفية الواسعة التي تكثر فيها التلال الصغيرة، وتظلل عوارضها المصنوعة من الصلب المغزول على سماء سيليزيا الرمادية.
هناك أيضا تذكير واضح للتكلفة البيئية للفحم. الهبوط التدريجي للأرض أضر بأحد الأنهار المحلية، ما أدى إلى فيضان في بعض الأماكن.
وإلى الجنوب الغربي من المدينة، حولت المياه التي أزاحتها أعمال التعدين جزءا من غابة إلى مستنقع، تاركة الأشجار الميتة تقف إلى الأبد في برك راكدة.
ما أثار الفزع بشكل خاص لدى مواطني إيميلين حين سمعوا عن خطط شركة بي جي جي، أن الشركة كانت تسعى إلى استخراج الفحم على عمق يصل إلى 180 مترا، واستخدام طريقة تعدين معينة.
في ظل هذا النهج، لا يتم ملء تجاويف التعدين بل يتم تركها لكي تنهار - وهو احتمال يثير أعصاب السكان المحليين.
يقول مجلس مدينة إيميلين إنه إذا تم التوسع، فإن 48 في المائة من المدينة ونحو ثلاثة آلاف مبنى، ستكون داخل منطقة التأثير.
يقول توماس لميك، الذي أسس منظمة ناش إيميلين، إحدى المجموعات التي تعترض على التوسع: "عندما عرضت على والدي التقرير الذي أعده المنجم، أمسك برأسه غير مصدق ذلك.
كان يعمل في المنجم، وهو يعرف ما هي المخاطر. هذا ما جعلني أنخرط في الموضوع فعلا".
أليشا زديتشيفيتش، وهي مدرسة وناشطة بارزة أخرى، شعرت بالتحفيز بصورة مماثلة. تقول: "هذا جديد تماما بالنسبة لي. أريد أن أحمي منزلي. أنا خائفة على منزلي".
علامات الضرر الذي يخشاه النشطاء موجودة في كل مكان في سيليزيا. في أحد المنازل في منطقة إيميلين التي تعرضت للانهيار، كان الميلان موجود في كل مكان.
عبور الغرفة يجعلك تشعر وكأنك تمشي صعوديا. الأبواب إما محشورة أو تتمايل لأنها لم تعد ثابتة في أماكنها. لا يمكن ملء الأوعية والكؤوس حتى نهايتها، لأن المنحدر يعني أنها ستفيض. ثم هناك الهزات.
تقول مالكة المنزل: "أنت تنام، لكنك تشعر وكأنك على متن قارب". وروت كيف أخرج أحد الزلازل صهر جارتها، وهو متزوج حديثا وانتقل إلى المنطقة أخيرا، من المنزل في رعب. وتقول: "هذا يسبب لنا كثيرا من التوتر".
جنبا إلى جنب مع المسؤولين المحليين، تم حشد نشطاء إيميلين. كلفوا جهة معينة بإجراء دراسة هيدروجيولوجية حول عواقب التعدين الجديد، ونصبوا ملصقات تحذر من المخاطر، ونظموا احتجاجات في كاتوفيتشي، وقدموا التماسات إلى البلديات القريبة للحصول على الدعم، بل وذهبوا إلى بروكسل لرواية قصتهم.
في الوطن، تجمعوا مع السكان المحليين، وأقنعوا 1287 شخصا بتوقيع عريضة ضد المشروع. لم تنجح الجهود الأولية.
أعطى المكتب الإقليمي لحماية البيئة في كاتوفيتشي الضوء الأخضر إلى شركة بي جي جي في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي.
ذلك لم يفت في عضد يان شويداكز، وهو مهندس سابق في شركة التنجيم شغل منصب عمدة إيميلين على مدار 24 عاما، وتقدم بطلب استئناف.
يقول شويداكز: "بغض النظر عن كيفية تأمين المنجم للممتلكات وإصلاح الأضرار، لا توجد طريقة للقضاء بالكامل على الأضرار التي لحقت بالمنازل أو البنية التحتية للطرق، ناهيك عن البيئة.
إذا كنت توازن التأثير السلبي للمشروع في مقابل المنافع، مثل الوظائف التي يوفرها المنجم والضريبة التي يدفعها للبلدية لسوء الحظ، فالأضرار أعلى من الفوائد. لهذا السبب نحن نقول "لا".
تقول شركة بي جي جي التي نشأت عن عملية إعادة هيكلة لشركات التعدين في بولندا في عام 2016، إن مخاوف إيميلين في غير محلها. وتصر على أن 80 في المائة من المباني في منطقة تأثير عملية التعدين محمية بشكل كاف ضد هزات التعدين، وتقول إنها ستحلل الإجراءات الوقائية الضرورية لمبان غير محمية.
تقول الشركة: "من المتوقع أن يكون هبوط الأرض معتدلا، وسيظهر على مدى 25 عاما وسيصل إلى 6.5 متر كحد أقصى. لن يؤدي هذا إلى حدوث تغييرات كبيرة في التضاريس أو المناظر الطبيعية الجميلة أو الظروف المائية. شركة التعدين، كما هي الحال الآن، ستوقع عقودا مع شركات متخصصة، التي سوف تتعامل على الفور مع أي إخفاقات تحدث".
"ستخصص شركة التعدين الموارد المالية المناسبة في خططها السنوية لإصلاح أضرار التعدين، بما في ذلك إصلاح شبكة أنابيب المياه والطرق الواقعة داخل منطقة التأثير للاستخراج المقرر في رواسب إيميلين الشمالية" حسب ما أضافت.
بالنسبة إلى جيرزي ديمسكي، الذي قضى 20 عاما يعمل في منجم ويرأس الآن نقابة عمال المناجم، فإن حملة سكان إيميلين مبالغ فيها.
يقول: "المواطنون مقتنعون بأنه إذا وسع منجم استخراجه للفحم، فستحدث مأساة كبيرة، لكنها لن تحدث".
"المواطنون يدفعون لمثل هذه الهستيريا. لا أريد الإساءة إلى أي شخص، لكن العمدة يريد إنشاء جمهورية موز هنا.
هذا الأمر يهم بولندا. لا يمكن للعمدة أن يطلب – حتى من وجهة نظر بلدية مكونة من ثمانية آلاف مواطن – أن تتخلى الدولة البولندية عن نشاطها التجاري".
شويداكز يرى الأشياء بشكل مختلف. في رأيه، المعركة هي علامة على كيفية تغير بولندا، حيث إن الناس على استعداد متزايد لتحــدي صناعة كانت منيعة في السابق.
ويقول: في الثمانينيات كان المواطنون الذين يعيشون بالقرب من المناجم يقولون: "هذا هو ما يجب أن يكون عليه الأمر. نحن نعيش في منطقة يوجد فيها فحم، ويجب استخراجه. بعض البلدان لديها تسونامي. البعض الآخر لديه الفيضانات. في أمريكا لديهم الأعاصير. نحن لدينا مناجم".
"الموقف اليوم مختلف تماما. يدرك الناس أن المناجم وعمليات الاستخراج تسبب الأذى والضرر، وأنها تدمر البيئة والمنازل، التي بناها الناس، وأحيانا بقرض عقاري مدى الحياة، ظنا منهم أنهم سيورثونها ذات يوم إلى أطفالهم".
خلال معظم القرن العشرين، كان ينظر إلى مناجم بولندا على أنها مرتبطة ارتباطا وثيقا بازدهار البلاد.
حتى منتصف الثمانينيات، كانت بولندا واحدة من أكبر منتجي الفحم في العالم. جذبت مناجم الفحم في سيليزيا العمال والثروة إلى المنطقة، ما أدى إلى تجمعات مترامية الأطراف لنحو ثلاثة ملايين شخص حول كاتوفيتشي، التي لا تزال واحدة من أكثر المناطق كثافة سكانية في بولندا.
عمال المناجم الذين تحولوا إلى أساطير من قبل النظام الشيوعي باعتبارهم أكبر رموز الطبقة العاملة، وكانوا يعيشون في مجتمعات محلية متماسكة وكان أفرادها جيلا بعد جيل يعملون في باطن الأرض.
يتذكر ديمسكي أن المناجم كانت تعدهم "بمنزل وسيارة وزوجة"، في حين أن تقاليد عمال المناجم شكلت ثقافة المنطقة.
كانت لديهم أزياء خاصة، وميداليات، وأندية وأوركسترا خاصة بهم - حتى إنه كان لديهم مهرجان باربوركا، وسمي على اسم القديسة باربارا قديسة التعدين.
يقول ماريك جوزيفياك، وهو ناشط في منظمة السلام الأخضر نشأ في جاورزنو، وهي بلدة تقع على بعد نحو 20 كيلومترا شرق كاتوفيتشي: "التعدين أكثر من مجرد وظيفة، هو طريقة حياة لكثير من الناس في سيليزيا".
"كان والد جدي يعمل في منجم، جدتي أيضا قضت حياتها كلها وهي تعمل في أحدها. عندما كان والدي مراهقا، كان يلعب لدى نادي كرة قدم برعاية منجم للفحم. وعندما انتهت حياته المهنية في كرة القدم، ذهب مباشرة ليكون عاملا في المنجم. الكنيسة في الرعية التي نشأت فيها كانت تعود إلى القديسة باربرا. أمي اسمها باربرا. إنها ليست صدفة. تعدين الفحم صنع المدينة. سيكون هناك كثير من المدن في سيليزيا مثل هذه". في 1990، كانت مناجم بولندا الـ70 توظف 400 ألف شخص واستخرجت 5 في المائة من الفحم الحجري في العالم.
ومع ذلك، في حين كان مستوى تعدين الفحم في بولندا قبل الحرب العالمية الثانية قابلا للاستمرار من الناحية الاقتصادية، إلا أن هذه الصناعة علقت في دوامة الإنتاج المفرط خلال السنوات التي قضتها البلاد وهي خلف الستار الحديدي.
عندما انهارت الشيوعية، مرت بولندا بتغييرات مؤلمة في الوقت الذي كانت فيه تتكيف مع حقائق الرأسمالية. الوقود الذي كان من المفترض أن يكون حجر الزاوية في اقتصادها أصبح نيرا في عنقها. خلال عقد من الزمان، غرق القطاع في ديون بلغت أكثر من 20 مليار زلوتي (5.7 مليار يورو).

إنشرها

أضف تعليق

المزيد من FINANCIAL TIMES