FINANCIAL TIMES

ظل الدب الروسي الثقيل يخيم على «صيرفة البلطيق»

ظل الدب الروسي الثقيل يخيم على «صيرفة البلطيق»

ظل الدب الروسي الثقيل يخيم على «صيرفة البلطيق»

عندما بدأت مصارف البلدان الاسكندنافية بالتدفق إلى بلدان البلطيق في مطلع القرن الحالي، بدا أن ذلك فرصة ذهبية لتأسيس أعمال جديدة مربحة في صناعة شديدة التنافس.
يقول أحد مصرفيي البلدان الاسكندنافية المشارك في عملية التوسع، "ذاك كان بمنزلة تخوم جديدة عظيمة".
حتى وقت قريب، كانت كثير من المصارف الاسكندنافية مثل بنك دانسك، وسويدبنك، وسيب، ونورديا ودي إن بي، تسيطر على جميع الخدمات المصرفية المحلية في دول البلطيق، أي إستونيا ولاتفيا وليتوانيا.
في الوقت نفسه، كانت بلدان البلطيق تشكل نفسها كجسور مالية بين روسيا والاتحاد الأوروبي.
يقول المصرفي: "كانت سوقا يمكننا فيها توفير بعض النظام ومساعدة الطبقة المتوسطة الروسية. هذا كان العمل الذي بدأ الجميع بإنشائه".
تلك الأعمال نفسها أصبحت الآن إحراجا يمكن أن يقضي على الحياة المهنية، حيث إن فضيحة غسل أموال غير عادية التي شملت حكام القلة ومجرمين من روسيا وبلدان الاتحاد السوفيتي السابقة، بدأت ببطء إفشاء أسرارها. التسريبات لم تؤد إلى إلحاق الضرر بمصارف البلدان الاسكندنافية وأجهزتها التنظيمية فحسب، بل ألحقت الضرر أيضا بسمعة بلدان بأكملها.
"سويدبنك" – المصرف السويدي الذي هو أكبر مصرف في بلدان البلطيق – دهمته الشرطة الأسبوع الماضي، وتم فصل رئيسته التنفيذية وكشف أن الهيئات التنظيمية الأمريكية كانت تحقق في سلوكه.
أي أمل في أن رحيل الرئيسة التنفيذية يمكن أن يجلب له بعض الراحة عندما استقال رئيس مجلس إدارة سويدبنك؟ أشار مستثمرون إلى ضرورة عقد اجتماع استثنائي للمساهمين – بعد أسابيع من آخر اجتماع – لانتخاب مجلس إدارة جديد قادر على تهدئة الوضع. انخفضت أسهم المصرف بنحو الثلث خلال الأسابيع السبعة الماضية.
جاء هذا بعد سلسلة مماثلة من الأحداث في بنك دانسك، أكبر مصرف في الدنمارك، حيث أدت فضيحة غسل أموال بقيمة 200 مليار يورو العام الماضي، إلى الإطاحة برئيسه التنفيذي ورئيس مجلس إدارته، وانخفاض أسهمه إلى النصف وإجراء تحقيقات جنائية ضده في الولايات المتحدة والدنمارك وإستونيا.
بالنسبة إلى البلدان الاسكندنافية، التي تعتمد طريقة حياتها على مستويات عالية من الثقة، قد يكون التأثير كارثيا. تقول لويز براون، رئيسة منظمة الشفافية الدولية في السويد، "إن فقدان الثقة هو أكثر النتائج المؤسفة لهذا".
الناس بشكل عام لا يشعرون أن المصارف تعمل بشكل صحيح أو أن الهيئات التنظيمية تتمتع بمصداقية. هذا سيؤثر في سلوك الناس – سواء في الانتخابات أو السلوك اليومي".
فضيحة غسل الأموال ليست المرة الأولى التي تواجه فيها مصارف البلدان الاسكندنافية مشكلات في منطقة البلطيق. إستونيا ولاتفيا وليتوانيا تضررت بشدة من الأزمة المالية، حيث تراجعت اقتصاداتها بما يصل الربع. وكان "سويدبنك" بحاجة إلى دعم الحكومة للنجاة من الأزمة.
كارل بيلت، رئيس الوزراء السابق في السويد، يقول إن وجود مصارف السويد في المنطقة كان حاسما من الناحية الجغرافية السياسية فضلا عن المالية.
ويضيف، "إنها واحدة من أهم مساهماتنا في استقرار دول البلطيق. كان ذلك مهما للغاية بالنسبة إليهم وكذلك لنا".
انتعشت اقتصادات بلدان البلطيق بسرعة بعد الأزمة، وبدأت المنطقة في توفير أعمال جيدة لمصارف البلدان الاسكندنافية.
العائد على رأس المال المخصص لأعمال بنك دانسك غير المقيمة في إستونيا كان بنسبة هائلة بلغت 402 في المائة مقارنة بنحو 7 في المائة للمصرف ككل في عام 2013، وهو العام الذي وصل فيه غسل الأموال المزعوم ذروته.
كما وفرت هذه الطفرة كثيرا من المهن: رئيسا الخدمات المصرفية لبلدان البلطيق في كل من بنك دانسك وسويدبنك تمت ترقيتهما إلى منصب الرئيس التنفيذي للمجموعة.
بعد إقالة توماس بورجين في بنك دانسك العام الماضي وبيرجيت بونيسين في "سويدبنك"، طرحت أسئلة حول ما إذا كانت الأرباح التي حققها المصرفان في بلدان البلطيق جيدة فوق الحد، على نحو لا يجعلها حقيقية.
تعهد بنك دانسك بالتبرع بمبلغ 1.5 مليار كرونة دنماركية (230 مليون دولار) من الأرباح التي حققها في فرعه في إستونيا إلى مؤسسة مستقلة للجرائم المالية، ويخشى مستثمرون من أن غرامات يمكن أن يواجهها في الولايات المتحدة، من المرجح أن يتضاءل بجانبها المبلغ المذكور.
يقول أحد كبار المصرفيين في البلدان الاسكندنافية: "كل ما تحتاج إلى قوله هو ’غسل الأموال‘ اليوم والجميع سيتجه نحو الباب".
إن مصارف البلدان الاسكندنافية عالقة الآن في المأزق بسبب تطبيق وجهات نظر اليوم بشأن ممارسة الأعمال مع روسيا على الأحداث التي وقعت قبل خمسة إلى عشرة أعوام.
ويعترف قائلا: "كل مصرفي عاقل سيقول إنه قبل عام 2012، كان كل مصرف يتعامل مع أشياء لن يتعامل معها اليوم. كان الجميع مخطئين".
ما تغير كان ذا شقين: قواعد جديدة أكثر صرامة لمكافحة غسل الأموال منذ نحو عام 2013؛ وضم روسيا لشبه جزيرة القرم بعد ذلك بعام، الأمر الذي غير التسامح مع الأموال الروسية في النظام المالي إلى حد كبير. ليس من قبيل المصادفة أن بعض الهيئات التنظيمية والمصارف يبدو عليها أنها أدركت المخاطر في عامي 2014 و2015.
هذا هو الوقت الذي بدأت فيه الهيئة التنظيمية في إستونيا بسلسلة من الإجراءات التي دفعتها إلى إغلاق أنشطة بنك دانسك غير المقيمة الأولى، ومن ثم كامل عملياته في البلاد.
يخشى البعض من مشاركة روسيا في الادعاءات اللاحقة بشأن غسل الأموال في بلدان البلطيق.
يقول بيلت، "نحن نعلم أن هناك عمليات تضليل روسية نشطة لتشويه سمعة بلدان البلطيق وعلاقاتها مع الغرب. سأستغرب إذا لم ينتهزوا الفرصة هنا لزيادة الأمر سوءا".
كيلفار كيسلر، رئيس هيئة التنظيم المالي في إستونيا، يقول عن احتمال قيام روسيا بتحويل أي غسل أموال لاستخدامه كسلاح: "أنا أرى مخاطر الأضرار الجانبية المذكورة. هذا الخطر أكبر حتى من المعلومات المالية".
تسيطر مصارف البلدان الاسكندنافية على أربعة أخماس السوق المصرفية في إستونيا وليتوانيا وثلثي السوق المصرفية في لاتفيا. أعربت الهيئات التنظيمية في كل من إستونيا ولاتفيا عن مخاوفها من أن الفضائح في نهاية المطاف، يمكن أن تؤدي إلى إخراج المصارف السويدية من المنطقة.
يقول كيسلر: "عدم الاستقرار هذا – الذي يدور حول هذه القضايا القديمة – من وجهة نظر أمنية، ليس مريحا لهذه الدرجة. أنا لا أحبه". يضيف بيلت: "يوجد أشخاص مهتمون بإخراج المصارف السويدية من منطقة البلطيق".
حتى بعد موجة الكشوفات، لا يزال هناك كثير من الأسئلة التي يجب حلها. هناك قليل من الوضوح حول ما حدث فعلا داخل مصارف البلدان الاسكندنافية.
تقرير تم تسريبه من "سويدبنك" يشير إلى أن نحو 135 مليار يورو من الأموال غير المقيمة عالية المخاطر تدفقت عبر عملياته في إستونيا على مدى عقد من الزمن، وذلك وفقا لمحطة الإذاعة السويدية إس في تي SVT.
تلك الأرقام تتعلق بالصفقات الإجمالية – حيث لا تشير إلى المشبوه منها، ناهيك عن غسل الأموال الفعلي، وهو أمر يبدو من الصعب إثباته بسبب الحاجة إلى إثبات أنه تم الحصول على النقود الأولية بطرق غير قانونية.
يجادل بعض المصرفيين في البلدان الاسكندنافية أن هناك هستيريا تقودها وسائل الإعلام وراء هذه المزاعم.
يقول أحد كبار المصرفيين: "معظم التدفقات التي تراها هي أموال تم الحصول عليها بطريقة مشروعة. لقد كانت رساميل هربت من روسيا. هذه ليست جميعا أموالا إرهابية أو مخدرات أو جنائية".
ويقول إن المصارف تكافح لمواجهة هذه المزاعم: "ليس لدينا فعليا أي طريقة لإصلاحها. لا توجد طريقة يمكنك من خلالها العودة إلى هذه الصفقات، والتحقق من أجل معرفة الزبائن بأثر رجعي".
يشدد المصرفيون على أن دورهم ينبغي أن يتمثل في إعداد عمليات مناسبة يمكنها تحديد الزبائن والصفقات الخطرة، لكن المراقبة الفعلية لغسل الأموال أمر يتعلق بأجهزة إنفاذ القانون.
يقول المصرفي: "لا أحد يفهم فعلا أي شيء من هذا. نحن نحصل على كثير من المفاهيم المختلطة. بالكاد أفهم ما هو غسل الأموال".
يجادل البعض أنه في حين أنه يتم تسليط الضوء حاليا على مصارف البلدان الاسكندنافية، إلا أنه يمكن القول إن هناك مصارف أخرى تتحمل مسؤولية أكبر، فيما يبدو أنه مخطط ضخم لغسل الأموال يشمل عددا لا يحصى من المصارف واللاعبين في الغرب.
يقول بيلت: "ما تراه في السويد وبلدان البلطيق ضئيل مقارنة بلندن. هل هي أموال جنائية؟ إنه مجال غامض. روسيا في التسعينيات كانت منطقة رمادية كبيرة، وتحديد ما هو خير وشر في هذا ليس بالأمر السهل".
مع ذلك، ما أظهرته الفضيحة هو أوجه قصور في النظام المالي للبلدان الاسكندنافية – من مجالس إدارة ومستثمرين إلى الهيئات التنظيمية والحكومات.
كل من بنك دانسك وسويدبنك واجها انتقادات حادة من المستثمرين لما يعد ردود أفعالهما السيئة على الفضائح. قضى بنك دانسك أشهرا في التقليل من أهميتها، قبل الاعتراف بأن حجم المعاملات المشكوك فيها كان أعلى بأكثر من 20 ضعفا مما كان قد قال سابقا.
قدم "سويدبنك" تقريرا تم حذف مقاطع كبيرة منه من مستشارين خارجيين ولم يقدم للمستثمرين معلومات جديدة تذكر.
وانتقد المستثمرون كيف دافع المجلس عن رئيسته التنفيذية تماما حتى الوقت الذي فصلت فيه.
تقول لويز براون إن مجلس إدارة سويدبنك والأجهزة التنظيمية حاولت التقليل من أهمية الفضيحة، لكنها تنتقد المستثمرين أيضا، حيث تجادل أنهم يحمون أنفسهم وأعضاء مجلس الإدارة على حساب السيطرة المناسبة على المشكلة.
وتضيف: "هناك افتقار إلى تقبل المسؤولية. نرجو أن هذا سيعمل على إحداث هزة في الطريقة التي ننظر بها إلى حوكمة الشركات".
كذلك اضطرت الحكومات إلى التصرف. الغرامات المفروضة بسبب غسيل الأموال كانت مثيرة للضحك، 50 مليون كرونة سويدية (5.4 مليون دولار) كانت أقصى غرامة في السويد حتى عهد قريب، ولا تزال الآن عند 32 ألف يورو في إستونيا، وهو مستوى يعده كيسلر "كلاما فارغا".
التحقيقات من قبل الأجهزة التنظيمية ووكالات إنفاذ القانون في الولايات المتحدة والبلدان الإسكندنافية وبلدان البلطيق، ستستغرق أعواما لكي تأخذ مجراها، وكذلك الدعاوى القانونية التي يقيمها المساهمون. تقول براون إن السويد بحاجة إلى أن تغتنم هذه الفرصة من أجل الإصلاح.
وتقول: "نحن عاجزون عن الدفاع عن علامتنا التجارية وسمعتنا. نحن بحاجة إلى الفضائح لكي تتغير الأمور. هذا موقف جيد لتحسين الأمور".

إنشرها

أضف تعليق

المزيد من FINANCIAL TIMES