FINANCIAL TIMES

تحية وداع مزدوجة للاتحادين الأوروبي والبريطاني

تحية وداع مزدوجة للاتحادين الأوروبي والبريطاني

خلال ربيع عام 1975 صدحت "وول ستريت جورنال" صحيفة الأعمال الأمريكية بعنوان قوي: "وداعا بريطانيا العظمى".
كانت بريطانيا يومها تعرف باسم رجل أوروبا المريض، وكان المستثمرون يهربون منها جراء أدائها الاقتصادي المدمر، وتفشي الصراع الصناعي، وكأن العظمة في البلاد قد مهدت طريقا للتراجع المستمر.
على أن أحداثا لاحقة أثبتت أن التنبؤ ذاك كان سابقا لأوانه. لقد تم إنقاذ بريطانيا من قبل صندوق النقد الدولي، وبعد ذلك من خلال اكتشاف النفط في بحر الشمال، ولربما يضيف البعض: وكذلك عبر ثورة مارجريت ثاتشر الاقتصادية. على أية حال، بعد عقد من الزمن، كانت زعيمة بريطانيا ثاتشر حينذاك، ترقص على المسرح العالمي مع رونالد ريجان الرئيس الأمريكي الأسبق .
تواجه بريطانيا لحظات وجودية أخرى الآن. لقد كان من المفترض أن تتمحور قصة طلاق بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، حول خروجها الفعلي، إلا أنها تحولت إلى أزمة هروب وطنية إلى الأمام.
يبدو أن القوى التي تحرك خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، باتت جاهزة لإزالة ما هو أكثر بكثير من الآليات المؤسسية والعلاقات الاقتصادية والروابط السياسية، التي نشأت خلال عقود من عضوية الاتحاد الأوروبي.
تتشكل في الأفق: "وداعا بروكسل" لتكون الفصل الأول من أحداث درامية منقسمة إلى جزأين، على أن الجزء الثاني قد يلوح بالوداع لبريطانيا.
في أحد الأيام استمعت إلى ميرفن كينج، محافظ بنك إنجلترا "المركزي" السابق، وهو يقول: إن على الحكومة أن تستغني عن مزيد من المفاوضات مع بروكسل، وتختار خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي بلا اتفاق، على الرغم من مضي ستة أشهر من الاستعداد.
قال كينج إن التكاليف ستكون مؤقتة وقابلة للإدارة. بالنظر إلى رضا اللورد كينج عن استقرار الأسواق المالية قبل انهيار عام 2008، فإن كثيرين سوف يشككون في حكمه الاقتصادي.
على أن ما أثار دهشتي هو إصراره على أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، كان حول الهوية والثقافة، بالفعل.
على الرغم من أنه يجلس على الجانب الآخر من النقاش الأوروبي، إلا أن وزير الخزانة السابق كينيث كلارك المنتمي إلى حزب المحافظين، يتفق مع ذلك.
يقول كلارك إن الدافع وراء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، يأتي مع نهوض الجناح القومي الإنجليزي اليميني في حزبه.
يعكس المشروع نوعا من اتجاه حزب المحافظين، الذي لم يتقبل أبدا خسارة الإمبراطورية التي لا تغرب عنها الشمس.
إن الخروج من الاتحاد الأوروبي - يوم الاستقلال - كما يطلق عليه مناصرو خروج بريطانيا، متجذر في الحنين إلى الماضي، بقدر ما هو متجذر في الثورة الشعبية ضد طبقة النخبة، والجهات الخارجية التي زودت النقاش حول النزاع البريطاني- الأوروبي بهذه الذخيرة من الغضب الشديد.
ومن هنا خرج خيال مناصري خروج بريطانيا الذي يتمحور حول "بريطانيا عالمية" جديدة، وتلميحات في كل مكان عن الحرب العالمية الثانية، واستعداد ونستون تشرشل ليكون قائما ومستقلا لوحده (في وجه آلة الحرب النازية القاهرة المدمرة).
إن هكذا تهديد يخفي خلفه صرخة ألم.
خروج بريطانيا من الاتحاد الاوروبي مشروع إنجليزي وليس بريطاني، وبشكل أكثر تحديدا، ينتمي بشكل كبير إلى مقاطعة إنجلترا.
باستثناء برمنجهام، فإن المدن الكبرى في البلاد - من بينها لندن ومانشستر وليفربول ونيوكاسل - تعتبر في جانب البقاء في الاتحاد الأوروبي.
لقد تفوق عليهم مناصرو خروج بريطانيا في مدن وبلدات إنجليزية أصغر وفي مناطق ريفية.
دعمت اسكتلندا معارضي خروج بريطانيا بهامش كبير. وبسرعة مماثلة لتصويت مناصري خروج بريطانيا من حزب الاتحاد الديمقراطي "البروتستانت"، صوتت بقية إيرلندا الشمالية للاستمرار في عضوية الاتحاد الأوروبي. إلا أن ويلز اتبعت خطا إنجلترا.
كانت اسكتلندا قد صوتت في عام 2014 للبقاء ضمن اتحاد المملكة المتحدة.
على أن من الصعب تخيل أنها ستفعل الشيء نفسه في استفتاء آخر، عقب الـــــ"بريكست". قبل خمس سنوات، قدمت الصيغة الاتحادية للاسكتلنديين الفخورين، هويتين إضافيتين، معا.
بالبقاء في بريطانيا، يمكنهم أن يكونوا بريطانيين وأوروبيين، وضمن اتحادين في وقت واحد. أما الآن، وبعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، سيكونون إما بريطانيين أو أوروبيين.
اتحاد المملكة المتحدة في عام 1707 مع إنجلترا، أعطى اسكتلندا دورا دوليا بصفتها شريكة في الإمبراطورية. الآن، في ظل مملكة متحدة خارج الاتحاد الأوروبي، فإن ذلك سيعني فصل اسكتلندا عن بقية أوروبا.
تصر حكومة تيريزا ماي على أن السلطات المسترجعة من بروكسل، سيتم إيداعها في وستمنستر بدلا من تقاسمها مع برلمان إدنبره، والإدارات اللامركزية الأخرى، ضمن مقاطعات المملكة المتحدة.
رئيسة الوزراء تريد الحد من الهجرة بدرجة كبيرة. واسكتلندا تريد مزيدا من المهاجرين الجدد للمساعدة في دفع عجلة الاقتصاد.
لم تقيد هذه الدولة نفسها، أي اسكتلندا، ذات الثقافة السياسية الغارقة في مركزية السوق الاجتماعية، بحكم القوميين الإنجليز؟
من جهة أخرى، لا يمكن اعتبار مكان إيرلندا الشمالية في المملكة المتحدة، أمرا مسلما به بعد الآن.
أثار الحزب الاتحادي الديمقراطي ضجة كبيرة حول التأكد من أن التسوية مع بلدان الاتحاد الاوروبي، التي يبلغ عددها 27 دولة لن تميز بين المقاطعة، أي إيرلندا الشمالية، وبقية المملكة المتحدة.
على أن عداءهم للاتحاد الأوروبي هو موقف الأقلية في إيرلندا الشمالية نفسها. لا يوجد أمر فعل الكثير لإعادة فتح مسألة الوحدة الإيرلندية، مثل ما فعله خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
الهوية البريطانية صفة مخترعة، ومتوسعة بصورة متعمدة، إذ تمت دراستها خلال القرن الــ19، لإنشاء إمبراطورية صفتها مشروع مشترك بين بلدان أربعة، التابعة للمملكة المتحدة: إنجلترا واسكتلندا وإيرلندا وويلز.
في الآونة الأخيرة، عندما أصبحت الإمبراطورية واضحة المعالم، قدمت ترحيبا للمهاجرين من مواقع الإمبراطورية السابقة.
المواطنون البريطانيون من ذوي التراث الخارجي من المستعمرات أو سواء من ( الدومينيين أو الكومونولث) يعرفون بأغلبية ساحقة، على أنهم بريطانيون، أما الولاء لإنجلترا فهو ملك الجماعات البيضاء في البلاد، غالبا.
فهم الجانب المناصر لخروج بريطانيا هذا خلال استفتاء عام 2016. لقد قدم وعدين: إنفاق مزيد من المال على الخدمة الصحية الوطنية، وإيقاف التدفق (المتخيل تماما) للمهاجرين من تركيا أو عبرها. في شأن إنفاق الأموال على الخدمات الصحية، تقول الرسالة غير الخفية على الإطلاق: ذاك الإنفاق أفضل من مشاهدة اجتياح الأجانب للمستشفيات.
المسافة بين هذه المشاعر والعنصرية الصريحة للمتطرفين مثل: "رابطة الدفاع الإنجليزية" قصيرة بشكل خطير.
إن مشاهدة انحدار بريطانيا إلى الفوضى في الآونة الأخيرة، كان بمنزلة رؤية انحلال خيوط الهوية البريطانية، المنسوجة على مر القرون.
التركيز على سياسة الهوية أزاح جانبا، الهدف المشترك. كما أن الأمور التي تمزق هذا النسيج تصل إلى الحدود المجاورة بل وإلى دواخلها.
من هنا، من الصعب تخيل كيف يمكن إصلاح الخلل، ذاك.
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من FINANCIAL TIMES