Author

ضعف الاستهلاك يهدد قدرة المنتجين على إدارة أسواق النفط

|

لا شك أن أمن الطاقة، هو أحد أهم الموضوعات التي يهتم بها المستهلكون والمنتجون على حد سواء. ومع ذلك، فإن المنتجين والمستهلكين لديهم مفاهيم مختلفة لهذا المصطلح؛ حيث يفسر المستهلكون "أمن الطاقة" باعتباره توافر إمدادات ثابتة وكافية للطاقة، في حين ينظر إليه المنتجون كضمان لوجود الطلب على إمداداتهم. لقد أدى التركيز النسبي على احتياطيات النفط الوفيرة في عديد من البلدان إلى اعتمادها الكامل على عائدات النفط لتلبية متطلباتها المعيشية، التي أطلق عليها اسم "لعنة الموارد"؛ حيث تؤدي وفرة الموارد في بعض الأحيان إلى عدم الكفاءة وتباطؤ النمو الاقتصادي.
التقلبات الكبيرة في أسعار النفط يمكن أن يكون لها تداعيات وخيمة على البلدان التي تعتمد بشدة على عائدات النفط. لذلك، أسست منظمة أوبك عام 1960، ومهمتها ليست رفع الأسعار إلى مستويات غير معقولة، ولكن ضمان استقرار أسواق النفط من أجل تأمين إمدادات فعالة واقتصادية ومنتظمة من النفط إلى المستهلكين. على الرغم من النجاح الذي حققته "أوبك" أخيرا في تحقيق الاستقرار في السوق بالتعاون مع روسيا وغيرها من الدول من خارج المنظمة، إلا أن أسواق النفط العالمية تواجه تهديدا في السنوات المقبلة؛ بسبب اختلال أساسيات العرض والطلب.
لقد دفع تعطش العالم إلى النفط إلى زيادة الطلب عليه على مدى العقود الماضية. يقترب الاستهلاك العالمي للنفط الخام حاليا من 100 مليون برميل يوميا، وهو ما يزيد على ضعف ما كان عليه قبل 50 عاما. علاوة على ذلك، كان الطلب ينمو بمعدل 1.5 في المائة سنويا. هذا النمو القوي في الطلب على النفط حفز الدول والشركات على القيام باستثمارات ضخمة في صناعة النفط، بعض المصادر تقدرها بأكثر من عشرة تريليونات دولار.
تتطلب عمليات استكشاف، وتطوير وإنتاج النفط وقتا طويلا واستثمارات كبيرة قبل أن تحقق أي مكاسب. كما أن تراجع إنتاجية الآبار يتطلب الاستمرار في حفر آبار جديدة لتعويض الإنتاج المفقود. حتى الآن، كانت صناعة النفط العالمية قادرة على تلبية الطلب العالمي المتزايد. ولكن، قد تؤدي التطورات التكنولوجية وسياسات الدول المستهلكة إلى زعزعة أساسيات أسواق النفط، ما يعني أنه لم يعد بالإمكان مواءمة العرض والطلب، والحفاظ على استقرار الأسعار. كما أنه قد يؤدي إلى تراجع قاعدة المستهلكين، زيادة المنافسة وتقليل الإيرادات للمنتجين. بسبب عدم نمو الطلب، قد لا يكون المنتجون قادرين على إدارة أسواق النفط بعد الآن، ما قد يؤثر في قرارات الاستثمار النهائية للمشاريع ذات دورات الاستثمار الطويلة، التي قد تمتد إلى عقد من الزمن.
وفقا لبعض المحللين، سينخفض نمو الطلب العالمي بشكل كبير ابتداء من العقد المقبل حتى يصل إلى نقطة تتأثر فيها الربحية، وبالتالي قدرة الصناعة على التأثير في الأسعار. على سبيل المثال، القيود المفروضة على استخدام البلاستيك هي أحد الإجراءات التي يمكن أن تؤثر في الطلب على النفط. في هذا الصدد، أشار بنك سيتي جروب في تقرير له إلى أن معظم دول العالم تضع قيودا متزايدة على استخدام المواد البلاستيكية. أحد الأمثلة على ذلك هو قرار الصين وقف استيراد النفايات البلاستيكية. وقرر الاتحاد الأوروبي أيضا تقييد استخدام البلاستيك. ويقدر ماكينزي أن إعادة تدوير البلاستيك واستبداله بالمواد الحيوية يمكن أن يزيل نحو 2.5 مليون برميل في اليوم من الطلب على النفط بحلول عام 2035. وأيضا، يمكن أن ينتج نحو 60 في المائة من المواد البلاستيكية المستخدمة بحلول عام 2050 من مواد مستخدمة سابقا.
مجال آخر يمكن أن يؤثر في الطلب على النفط هو قطاع النقل العالمي. تتوقع شركة بريتيش بتروليوم أن تصاعد الحروب الجمركية يمكن أن يضر بشكل كبير بالأنشطة التجارية والاقتصاد العالمي. ففي سيناريو "عولمة أقل"، تتوقع شركة بريتيش بتروليوم أن يتراجع النمو الاقتصادي المتوقع لعام 2040 بنحو 6 في المائة، مقارنة بالسيناريو المرجعي للشركة، ما يترجم إلى انخفاض في الطلب على النفط بنسبة 2 في المائة تقريبا. قد يكون هذا التقدير متفائلا، نظرا لأن تقنيات التصنيع من الجيل المقبل، هي الاستخدام الموسع لبرامج تحسين الخدمات اللوجستية، وزيادة استخدام أنواع الوقود البديلة في الشاحنات ووسائل النقل، ويمكن أن تحدث تغييرات جوهرية أكبر في استخدام النفط في الطيران والشحن البري والبحري.
إن السياسات المتعلقة بالحظر المقترح على المبيعات الجديدة لسيارات محركات الاحتراق الداخلي بحلول عام 2040 في أوروبا، والمناقشات الجارية في الصين والهند التي يمكن أن تحذو حذوها، من الممكن أن تستقطع نحو خمسة ملايين برميل أخرى في اليوم من الطلب على النفط في المستقبل إذا تم تطبيقها على نطاق واسع. كما يمكن للسياسات التي تعزز استخدام مصادر الطاقة البديلة، مثل الكهرباء والهيدروجين، في الحافلات والشاحنات أن تحد بشكل كبير من استهلاك النفط.
يعتمد مستقبل صناعة النفط إلى حد كبير على كيفية إدارة المستثمرين والمنتجين لمحفظة استثماراتهم. سيحدد المسار المتوقع في الأسعار قرارات الاستثمار وبالتالي مستوى الإنتاج. هذا يمكن أن يخفف إلى حد ما الوضع بالنسبة للمنتجين التقليديين الذين يتمتعون بكلف إنتاج منخفضة مثل المنتجين في منطقة الشرق الأوسط، خصوصا الخليج العربي، حيث سيتم تعليق الإنتاج الأكثر كلفة مثل حقول القطب الشمالي والحفر في المياه العميقة والنفط الصخري. بغض النظر عن العوامل المخففة، لا يبدو أن التطورات السياسية والاقتصادية طويلة الأجل والسياسات المتعلقة بتغير المناخ تصب في مصلحة صناعة النفط، على الأقل من وجهة نظر الدول المستهلكة خاصة في أوروبا. لكن الصناعة أثبتت عبر تاريخها الطويل إمكانها التكيف وفق أصعب الظروف ومواجهة التحديات. بلا شك أن استهلاك النفط سيستمر في الانخفاض في دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، لكن هناك فرص كبيرة للنمو في أماكن أخرى في العالم، أكثر كثافة سكانية.

إنشرها