FINANCIAL TIMES

أين جميع النساء؟ سؤال يكشف اتهام البيانات بالتحيز

أين جميع النساء؟ سؤال يكشف اتهام البيانات بالتحيز

قبل ثلاثة عقود من الزمن، قضيت جزءا من عامي الذي يفصل بين الثانوية والسنة الأولى في الجامعة، وأنا أعمل متطوعة في مشروع التطعيم وصحة الأم، في قرى منتشرة في أنحاء إقليم السند في باكستان.
إذا حكمنا بمقاييس برامج الصحة، كان البرنامج يبدو ناجحا للغاية. في المقابل كانت هنالك مشكلة طفيفة: كلما وصلت شاحنتنا الطبية إلى قرية ما بعد تحملها عناء السفر عبر صحراء السند، لم تكن لدينا سوى فكرة غامضة حول عدد المرضى المتوقع هناك.
نعم، كانت هنالك سجلات لأعداد السكان في المكاتب الحكومية، إلا أنه كان يغلب على تلك السجلات أن تدرج أسماء المسؤولين "الذكور" عن تلك الأسر، فحسب.
لذلك عندما كنا نصل إلى مكان ما، كنا بكل بساطة نصرخ لنناشد النساء الخروج من بيوتهن.
ومن ثم كنا نجري فحوصات طبية على الأمهات تشمل قياس ارتفاع ضغط الدم، وكنا نلقح أطفالهن ونوزع مكعبات السكر المرتبطة بقطرات تطعيم وردية اللون ضد مرض شلل الأطفال لأي طفل نراه، على أمل أن نتمكن من تطعيم جميع الأطفال.
هل هنالك طريقة أفضل لتقديم مثل هذه الخدمات - وتعقب النساء والأطفال؟ يبدو الأمر كذلك، إذا كان لدينا استعداد لتصديق بيل ومليندا جيتس في الرسالة السنوية المقدمة حول مؤسستهما، التي نشرت في وقت سابق من هذا الأسبوع.
الرسالة التي تحمل عنوان "يمكن للبيانات أن تكون قائمة على التحيز الجنسي"، تصنف في المرتبة الرابعة ضمن قائمة القضايا التي توصل الزوجان، إلى أنها جديرة بالاهتمام في عام 2018.
بعد أن أمضى حياته في مجال علم الحاسوب، بات بيل جيتس مقتنعا أن الإحصائيات الرسمية تتسم بعادة سيئة تتمثل في تقليل شأن دور المرأة، ليس في السجلات الصحية بل أيضا في عدد لا يحصى من المجالات الأخرى، كذلك مثل النشاط المالي.
يعود السبب في هذا جزئيا إلى أنه يغلب على النساء العمل في الاقتصاد غير الرسمي، على أن هناك أيضا مسألة أنهن غالبا ما يقتصر عملهن على المنزل أو الاضطلاع بمكانة متدنية في مجتمعاتهن، كما رأيت في تلك القرى الباكستانية.
لذلك قرر الزوجان جيتس تمويل الجهود المبذولة لجعل البيانات أقل "ميلا إلى التحيز الجنسي" وللتأكد من أن الإسهامات الاقتصادية التي تقدمها المرأة، يجري الاعتراف بها بشكل صحيح، لأن من شأن ذلك أن يضمن حصولهن على الخدمات التي يحتجن إليها.
يكتب بيل جيتس قائلا "أقضي فترات كبيرة من يومي وأنا أدرس البيانات المتعلقة بالصحة والتنمية، وأشعر بالاندهاش والاستغراب بسبب الكم الضئيل من البيانات المتوافرة لدينا حول النساء والفتيات. لا يمكننا تحسين الوضع إن لم نكن نعرف ما الذي يجري مع نصف عدد السكان".
هذا أمر جدير بالثناء، وإن كان قد جاء متأخرا. على أن الأمر الجدير بالملاحظة حقا هو أن عالم القرن الحادي والعشرين ربما يكون قد نجح أخيرا، في تطوير أساليب للبحث والأخذ في الحسبان تلك الفئة المفقودة من النساء.
حتى وقت قريب، كانت الطريقة الوحيدة المتبعة لجمع الإحصائيات حول الناس في العالم النامي هي زيارتهم شخصيا.
الآن تقدم لنا التكنولوجيا الرقمية بديلا لذلك. على الرغم من أنه لا يزال يغلب على النساء استخدام الهواتف المحمولة والإنترنت بمعدل أقل من استخدام الرجال له في البلدان النامية، إلا أن هذا النشاط بدأ في الانتشار بوتيرة لافتة للنظر بين كلا الجنسين. الآثار الرقمية المسجلة لاستخدام الهواتف المحمولة والإنترنت يمكن أن تجعل من الأسهل جدا تعقب النساء في المستقبل.
على سبيل المثال، يحاول دعاة مكافحة الرق في آسيا تقييم عدد النساء اللواتي يعملن كرقيق أبيض بشكل خفي في مختلف المواقع، أو في المصانع من خلال تعقب سجلات الهاتف والنشاط عبر مواقع التواصل الاجتماعي مثل "فيسبوك"، ومن ثم مقارنتها بالسجلات الرسمية.
العامل الآخر الذي يمكنه تغييره عبر وسيلة إحصاء أعداد الناس هو مفهوم الهويات الرقمية.
يغلب على الناس في الغرب عد هذا الأمر من المسلمات، وفي الواقع تجري ملاحظة هذه الهويات عادة في حال تعرضها للاختراق أو سوء التعامل فحسب، إلا أنه في البلدان النامية، تظل الهويات الرقمية - أو حتى بطاقات التعريف البسيطة – من أوجه الترف. يغلب على النساء، على وجه الخصوص، عدم حمل بطاقة هوية رسمية، ما يجعل من الأصعب عليهن الحصول على خدمات مثل التمويل الصغير، مثلا.
تعمل منظمات مثل الأمم المتحدة والبنك الدولي على الترويج لمبادرات تهدف إلى منح الأشخاص المحرومين هويات رقمية، مدعومة من شركات القطاع الخاص مثل ماستر كارد ومجموعات التطعيم مثل جافي.
واحدة من الأفكار التي يجري اختبارها تتمثل في منح الأطفال - الذين يتم إعطاؤهم لقاحات وتطعيمات أو قطرات مضادة لمرض شلل الأطفال - سجلا رقميا في الوقت نفسه. إن من شأن ذلك أن يشكل فيما بعد أساسا لهوية رقمية مدعومة ببيانات رسمية، ما قد يساعدهم في الحصول على الخدمات عندما يصبحون أكبر سنا - وسيجعل من الأسهل عملية إحصاء النساء "والرجال" معا.
لا تخلو هذه الفكرة من المخاطر: إذا أصبحت الحكومات أقدر من حيث تعقب الناس عبر الإنترنت، فقد يساعد ذلك أيضا في السيطرة عليهم أو الاعتداء عليهم بشكل أكثر فاعلية. في الواقع، هنالك منذ الآن مخاوف في عالم الإعانات من أنه قد يتم استخدام بعض البيانات التي يجري جمعها من خلال مشاريع الرعاية الصحية الخيرية، في أماكن معينة في العالم النامي، بالذات، لأغراض سياسية.
على أن هنالك ما يبرر مثل هذه المخاوف حول إساءة استخدام البيانات، إذ إن هنالك أيضا تساؤلا حول المقايضة: هل يجدر رفع مستوى الجوانب الإيجابية للابتكار الرقمي من أجل منح الفقراء خدمات أفضل "مثل السجلات الصحية"، حتى في ظل وجود تلك المخاطر؟ أم ينبغي لنا التأكيد على المخاوف المتعلقة بالخصوصية، بأي ثمن؟
أفضل التأكيد على منافع الابتكار، مع وجود رقابة. العالم الذي ينعم فيه كل شخص بإمكانية الحصول على التحصين، بفضل وجود هوية رقمية، يبدو أفضل بكثير عند المقارنة بالنهج العشوائي الذي رأيته بأم عيني في الصحراء قبل ثلاثة عقود، ولا سيما أن ذلك يتسبب في جعل البيانات "أقل تحيزا من الناحية الجنسية"، كما يقول جيتس.
الحوار المتعلق بالمقايضة سيسيطر علينا لفترة طويلة، ليس في الغرب فحسب، بل أيضا في العالم النامي.
يظل الأمل مفتوحا ومزدهرا، على الرغم من أن من النادر أن يحدث "التقدم" على خط مستقيم.
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من FINANCIAL TIMES