FINANCIAL TIMES

أوهام »بريكست» تنقل سنغافورة إلى ضفاف نهر التايمز

أوهام »بريكست» تنقل سنغافورة إلى ضفاف نهر التايمز

في غضون شهرين، ربما تكون المملكة المتحدة قد خرجت من الاتحاد الأوروبي إلى الفراغ، أي الخروج دون التوصل إلى اتفاق. خروج "البدون".
ماذا سيحدث بعد ذلك؟ بالنسبة لبعض مؤيدي "بريكست"، يبدو أن الجواب هو إلقاء اللوم على الاتحاد الأوروبي في التسبب في حدوث هذه الكارثة، ومن ثم تحويل المملكة المتحدة إلى سنغافورة، أو ما يتصورون أنه سنغافورة.
هؤلاء الأشخاص محقون في شيء واحد فقط: سنغافورة هي قصة نجاح اقتصادي كبير، إلا أنها ليست جنة الحرية.
على العكس من ذلك، لقد تم بناء نجاحها على العمل الجاد، والتضحيات الإجبارية بل والاستبدادية، التي يمكن أن يقال عنها إنها كانت "حميدة نسبيا".
ينبغي أن نتعلم من سنغافورة، أنه لا يجب التفكير فيها كنموذج معقول لمستقبل بلد من شاكلة المملكة المتحدة.
شأن النجاحات الاقتصادية للمستعمرة البريطانية السابقة، لا يوجد شك. بحلول عام 1980، حصة الفرد من الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي في سنغافورة تقاربت مع حصة الفرد في المملكة المتحدة. بحلول عام 2018، كانت أعلى بأكثر من مرتين. وفقا لصندوق النقد الدولي، حصة الفرد من الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي في سنغافورة هي الرابعة في العالم بعد وماكاو ولوكسمبرج.
باعتبارها دولة مدينة ذات سوق محلية صغيرة، فإن مستقبل سنغافورة كان يكمن في جذب الشركات الأجنبية متعددة الجنسيات والمهارات.
مع عدم وجود سوق محلية تستحق الذكر، كانت التجارة الحرة خيارا واضحا.
على أن التجارة الحرة ليست أن تُترَك الأمور لتأخذ مجراها دون تخطيط. سنغافورة عززت الصناعات الجديدة. ولا تزال لديها مساهمات كبيرة عبر صندوق ثروتها السيادي المعروف باسم تيماسك Temasek.
لقد استغلت سنغافورة موقعا رائعا في المنطقة الآسيوية سريعة النمو، وقوتها العاملة عالية الجودة بشكل متزايد، وضرائب منخفضة، لتحويل نفسها إلى مركز رئيس للأعمال الدولية.
كما انها شاركت أيضا بنشاط دؤوب في التكامل الإقليمي من خلال رابطة بلدان جنوب شرقي آسيا، "الآسيان".
الأكثر أهمية من ذلك أن مصداقية "عرض" سنغافورة نفسها للعالم، التي تدعمها حقيقة أن حزبا حاكما واحدا لا غير، هو من يتمتع بكفاءة عالية، وقد حكمها طوال تاريخها كبلد مستقل.
من بين التفسيرات المكملة لنمو سنغافورة السريع أنها تستثمر كثيرا: في الفترة ما بين عامي 2008 و2018، استثمرت ما متوسطه 29 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، بينما استثمرت المملكة المتحدة 17 في المائة فحسب.
ويساعد هذا أيضا على تفسير السبب في كون البنية التحتية في سنغافورة استثنائية.
كما كان لدى سنغافورة معدل ادخار مذهلا بلغ 47 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي في تلك الأعوام، مقابل نسبة بائسة لا تتجاوز 12 في المائة في المملكة المتحدة.
معدلات الادخار الإجمالية في سنغافورة تتشوه بشكل كبير من إدراج أرباح الشركات متعددة الجنسيات.
إلا أنه في المقابل، هناك معدلات ادخار في صميم "الناتج المحلي الإجمالي الداخلي" لا تقل عن 30 في المائة.
أحد التفسيرات لهذه الادخارات العالية هو "صندوق الادخار المركزي"، الذي يجبر العاملين وأصحاب العمل على المساهمة بنسبة 37 في المائة من الأجور والرواتب حتى سن 55 عاما.
يستخدم الناس هذه الأموال لشراء المنازل وتوفير الرعاية الصحية والمعاشات التقاعدية: إنها بديل سنغافورة لدولة الرفاهية القائمة على إعادة التوزيع.
هناك تفسير آخر مهم في شرح الوضع الممتاز لسنغافورة، ألا وهو الفوائض المالية: بين عامي 2008 و2018 بلغ متوسط هذه الفوائض 5 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي. والمدهش أن صافي الأصول الدولية لسنغافورة بلغ 340 في المائة من الدخل الأهلي الإجمالي في عام 2017.
كيف يمكن لأي شخص تصور ذلك كنموذج معقول قابل للتطبيق في بريطانيا ما بعد "بريكست"؟
كونها غير قادرة على توفير الاستقرار للشركات العالمية، فإن المملكة المتحدة تدمر بشدة الأساس الذي نهضت من عليه كثير منها، سواء في سنغافورة أو في المملكة المتحدة، حتى.
مع عدم ضمان الوصول المناسب إلى أهم ترتيباتها الاقتصادية الإقليمية، أي الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، فإن المملكة المتحدة باتت على أعتاب مغادرته، ولكن ربما من دون التوصل إلى أي صفقة على الإطلاق.
عدم كونها ليست دولة مدينة لا يتجاوز عدد سكانها 5.6 مليون نسمة، فإن المملكة المتحدة دولة ديمقراطية متنوعة جغرافيا واجتماعيا وسياسيا بعدد سكان يبلغ 66 مليون نسمة.
ولا ينبغي – ولن يتم – تحديد مستقبلها من قِبل أشخاص وشركات يغريهم تحويلها إلى لا شيء أكثر من مجرد كونها ملاذا لضرائب منخفضة وتنظيمات خفيفة. هذا لا يمكن أن يدوم في بلد كان أكبر إمبراطورية في التاريخ الحديث.
سيكون من الخطأ القول إن المملكة المتحدة تفتقر إلى كل ما تملكه سنغافورة. الخدمة المدنية فيها غير فاسدة، على سبيل المثال، وسيادة القانون فيها تبقى راسخة.
كما سيكون من الخطأ، أيضا، القول إن المملكة المتحدة غير قادرة على تعلم الكثير من سنغافورة.
في الواقع، ستكون فكرة جيدة أن تتعلم المملكة المتحدة من النجاحات في أماكن أخرى. بذل جهود مركزة لرفع معدلات الادخار والاستثمار المنخفضة بشكل بائس، وتحسين البنية التحتية، وتغيير طبيعة المعايير التعليمية، كل تلك من السمات المميزة لتطوّر سنغافورة، وستكون مرغوبة للغاية، إن تم التوصل إليها في بريطانيا.
سنغافورة رفعت أيضا ملكية المنازل إلى معدل استثنائي يبلغ 91 في المائة. كل هذه إنجازات يمكن أن تسعى المملكة المتحدة إلى التعلم منها، قبل تطبيقها، إلا أنها تتطلب أيضا خيارات سياسية وتضحيات صعبة.
الفكرة القائلة إن إلغاء الرسوم الجمركية والتنظيمات وخفض الضرائب سيحققان رخاء واسع النطاق في بريطانيا ما بعد "بريكست"، لا تعدو أن تكون مجرد خيال، ما أسوأ أن يتحول إلى حقيقة على غرار الكابوس.
مثال سنغافورة أكثر تعقيدا ودقة من ذلك التفكير الفطير، بكثير. الاقتصادان والنظامان السياسيان ينطلقان من أماكن مختلفة جدا، في رفقة تواريخ مختلفة وإمكانيات مختلفة بل وآفاق مختلفة.
إن أي تفكير بخلاف ذلك هو مجرد توهم سحري أو ساحر. ولعل فرض تفكير سحري خيالي على حياة الناس الحقيقيين، هو الخطيئة السياسية التي لا يمكن أن تغفر، فحذار.
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من FINANCIAL TIMES