السياسية

فنزويلا .. أزمة دولة أم نهاية أيديولوجيا ؟

فنزويلا .. أزمة دولة أم نهاية أيديولوجيا ؟

فنزويلا .. أزمة دولة أم نهاية أيديولوجيا ؟

يتابع الكثيرون على امتداد العالم العربي ما يجري في فنزويلا باهتمام وترقب كبيرين، لما لدى البعض منهم من وشائج مع هذا البلد البعيد جغرافيا في أمريكا الجنوبية، والقريب وجدانيا بفعل موجات الهجرة العربية من الشرق إليه، منذ السيطرة العثمانية إلى ما بعد وقوع بلدان منطقة الشام تحت الانتدابين الفرنسي والبريطاني. تفيد الأرقام الصادرة هناك بأن فنزويلا تحتضن ما يزيد على 600 ألف مواطن من أصول عربية، أكثر من نصفهم لبنانيين.

توشك فنزويلا إحدى القلاع الصامدة لليسار في العالم على السقوط؛ ما يعني التحاقها بقائمة عواصم يسارية سابقة، مثل برلين الشرقية وموسكو وبكين... وغيرهما من منارات المعسكر الشرقي، التي لم تقو على مواجهة ما يفرضه النظام العالمي المعولم من مد لاقتصاد السوق، ونظامه الرأسمالي المتدفق.

أعقبت وفاة الزعيم الفنزويلي هوجو تشافيز اضطرابات حادة داخل البلاد، جراء الانخفاض الكبير لأسعار البترول في السوق الدولية، مع نهاية عام 2014. فهذه الجمهورية الفيدرالية، كانت حتى الأمس القريب، وبالتحديد قبل ثلاثة عقود ونصف، واحدة من أغنى دول أمريكا اللاتينية. إذ تربع على عرش منظمة الدول المصدرة للنفط أوبك لعقود، متفوقة باقي أعضاء النادي النفطي من حيث الاحتياطي القابل للاستغلال الذي يعادل 300 مليار برميل، إلى جانب كونها في المراتب المتقدمة عالميا من حيث الإنتاج (الثالثة) والتصدير (الرابعة).

واضح أن الأزمة السياسية التي يشهدها البلد مختلفة هذه المرة عما عهده الفنزويليون، بعد إعلان رئيس البرلمان خوان جوايدو نفسه "رئيسا مؤقتا"، ما أسهم في زيادة حدة الاحتقان السياسي والاجتماعي، واتساع الفجوة بين الرئيس نيكولاس مادورو والمعارضة اليمينية. ومع ارتفاع عدد القتلى في المظاهرات الحاشدة التي تطالب برحيل مادورو، يزداد الوضع سوءا، ولا سيما في ضوء دخول أطراف إقليمية ودولية على الخط، ما ينبئ بتدويل الأزمة الفنزويلية.

بعيدا عن التطورات المتلاحقة التي تتسارع كلما اتسع نطاق التدويل، ودخلت قوى إقليمية أو دولية على خط الأحداث. نقف عند بعض الدروس المستخلصة من الأزمة الفنزويلية، رغم ما قد يكون من تحفظ على الكلمة، على اعتبار أن الأزمة ما تزال مستمرة، ولا انفراج في الأفق القريب، ما لم تحدث مفاجأة في موازين القوى الداخلية (الرئيس/ المعارضة/ الجيش).

أولا: لقد أخفقت التجربة اليسارية في نسختها الفنزويلية، أو بتعبير أدق التشافيزية، على غرار باقي تجارب الأنظمة الشمولية، في التأسيس لنموذج مكتمل الأركان؛ سياسي واقتصادي واجتماعي، بإمكان الدولة العمل بناء عليه. وظهر ذلك في عجز فنزويلا على تحويل مداخيل النفط إلى مصادر لسياسات عمومية، قادرة على الجمع بين النمو والتنمية. بمعنى آخر، ضمان التفاعل بين التطور الاقتصادي وتحولات المجتمع الفنزويلي.

ثانيا: اتجاه أمريكا اللاتينية نحو فقدان وصف "القارة البوليفارية"؛ نسبة إلى سميون بوليفار، ما يجعل مستقبل الخيار اليساري في هذه القارة، وربما في بقية دول العالم، على محك الاختبار. فالأحزاب ذات المرجعية اليسارية مهددة اليوم، أكثر مما كانت عليه زمن سقوط الاتحاد السوفياتي، جراء الأزمة العميقة التي تواجهها بسبب الصعود المتواتر لأحزاب اليمين في أكثر من بلد في أمريكا الجنوبية.

ثالثا: الأيديولوجيا اليسارية أو الاشتراكية؛ بمختلف تلويناتها، لم يكتب لها النجاح في بداياتها الأولى؛ حين عايش المؤسسون مختلف تجاربها (الاتحاد السوفياتي والصين وكوبا...) تطبيقات ما كان ينظرون له، في زمن كانت فيه الانعزالية والتقوقع والانغلاق من المبادئ الأساسية في العلاقات الدولية. فكيف سيكون لها أن تنجح، في عالم تحول إلى قرية صغيرة؟، أضحى فيها الجميع مترابطا ومكشوفا بشكل لم يسبقه مثيل.

قد يرى الكثير من أنصار اليسار، فيما سبق من استنتاجات تحاملا على الأيديولوجيا اليسارية. ففي نظرهم ما كان لمختلف تجارب هذه الأخيرة أن تفشل، لولا تكالب قوى الإمبريالية العالمية عليها. فعديد من التجارب اليسارية الناجحة في العالم، تعرض للتدمير من قبل الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها في المعسكر الغربي.

على فرض أن هذا الادعاء صحيح، وهو نسبيا كذلك في الحالة الفنزويلية، متى استحضرنا في الأذهان وجود جون بولتون عراب الانقلابات الناعمة؛ الراغب في تغيير الأنظمة المناهضة للمصالح الأمريكية، على رأس إدارة الأمن القومي بالولايات المتحدة الأمريكية، الذي يطلق على فنزويلا وكوبا ونيكاراجوا منذ زمن طويل مصطلحه الشهير "مثلث الطغيان اللاتيني".

إن السؤال يطرح بشأن أيديولوجيا الدول الراغبة في تثبيت نظام الحكم القائم في كركاس، والداعمة للرئيس الحالي مادورو. هل في التقاطب الإقليمي والدولي بشأن الأزمة الفنزويلية، بين كل من المكسيك والأوروجواي وكوبا وبوليفيا وروسيا الصين وإيران وتركيا، دولة ناجحة في تطبيق الاشتراكية وتدعم فنزويلا في ذلك؟ أليس الأمر مجرد صراع للمصالح بين الكبار، يرضى الصغار بأن يحولوا أنفسهم إلى حطب لها؟

لدى موسكو، وبكين بدرجة أقل، مصالح ومشاريع قواعد وتدريبات عسكرية وأمنية واستثمارات وقروض وشهية مفتوحة للبترول تحت الأراضي الفنزويلية. ولدى الاثنين معا حرص مجالهما الحيوي، ومناكفة واشنطن في عقر قارتهم. وقد صرفتا أموالا وأسلحة وتدريباتٍ ومناوراتٍ من أجل ذلك، تتجاوز عشرات المليارات من الدولارات، تثبيتا لـلحزب الاشتراكي الموحد، والجمهورية الفنزويلية الخامسة التي تلبي مصالحهما.

ألم يستبدل الرئيس الحالي نيكولاس مادورو "نظام الفقراء" الذي أسسه سلفه تشافيز؛ قبل نحو عشرين عاما، وهو بصدد التأسيس لمشروع "جمهورية بوليفارية" قوامها الطبقات الشعبية، بعلاقات قوية مع كل من النظامين الروسي والصيني، ودعم وتأييد مطلقين من مؤسسة الجيش وطبقة البرجوازية الجديدة التي اغتنت على ظهر شعارات سيمون بوليفار. ناهيك عن مساندته من قبل الفرق شبه العسكرية، الموالية للسلطة الحاكمة، والتي تقتل المتظاهرين والمحتجين من مختلف الفئات الاجتماعية ضد فساد وعجز النظام القائم، على طريقة وأسلوب أشبه ما تكون بالحرس الثوري الإيراني.

إنشرها

أضف تعليق

المزيد من السياسية