السياسية

عيب قاتل .. يؤجج شوارع وسط أوروبا

عيب قاتل .. يؤجج شوارع وسط أوروبا

عيب قاتل .. يؤجج شوارع وسط أوروبا

إن احتجاجات الشوارع في بودابست ضد التشريع الجديد الذي ينظم العمل الإضافي الذي أطلق عليه قانون العبودية تعكس ضعف الديمقراطيات غير الليبرالية التي نشأت في وسط أوروبا. إن القانون الذي تم تقديمه دون أي تشاور يسعى للحد من تكاليف العمالة وإمكانية التنقل وذلك من أجل إبقاء الاستثمار الأجنبي المباشر – والوظائف- في هنغاريا. إن هذا القانون يفيد كذلك أصحاب العمل بما في ذلك النخبة الجديدة التي لديها علاقات سياسية وتحيط برئيس الوزراء فيكتور أوربان.

ولكن هناك جوانب أخرى لهذه المسألة بحسب ما ترصده بيروسكا موهاكسي مدير البرامج وكبيرة زملاء في معهد الشؤون العالمية في كلية لندن للاقتصاد. فالطبيعة الانقسامية للحكومات غير الليبرالية في المنطقة عادة ما تستبعد الوصول للتوافق ما أضعف الحرية الأكاديمية واستقلال المؤسسات لدرجة خنق السياسات الخلاقة من أجل التعامل مع التحديات الاقتصادية وكنتيجة لذلك فإن آلية الرد الوحيدة في المنطقة هي المظاهرات والعصيان المدني. إن الاحتجاجات الواسعة الآن التي تواجه نظام أوربان قد تكون بمنزلة جرس إنذار بما قد يحصل في المستقبل.

إن الظروف التي تواجه المنطقة الآن سيصعب حتى على أكثر الحكومات مهارة وانفتاحا إدارتها، فما بالك في أنظمة ضيقة الأفق أيديولوجيا مثل هنغاريا وبولندا. إن أسواق العمل في وسط أوروبا ضيقة وتعاني شحا كبيرا في العمالة، وقد انخفضت البطالة بينما ارتفعت الأجور الحقيقية بشكل ملحوظ، وإن كانت مستوياتها لا تزال أقل من المعدل في دول الاتحاد الأوروبي المتقدمة.

إن الوضع القائم يعكس نموا قويا للمنطقة وتقلص القوى العاملة. لقد توسعت الاقتصادات في وسط أوروبا بمعدل يزيد على 3 في المائة سنويا في السنوات الأخيرة بفضل التحويلات المالية المرتفعة من الاتحاد الأوروبي والتحفيز ضمن السياسة النقدية المحلية وذلك ضمن أو تحت ظل التخفيف الكمي للبنك المركزي الأوروبي، وطبقا لتقرير صدر حديثا من قبل البنك الأوروبي لاعادة البناء والتنمية فإن نقص العمالة وخاصة العمال المهرة قد أصبح منتشرا في المنطقة بينما تسهم شيخوخة السكان والهجرة في تقليص العمالة .إن أوروبا الصاعدة قد "أصبحت طاعنة في السن قبل أن تصبح غنية "طبقا للبنك الأوروبي لإعادة البناء والتنمية. إن الأتمتة تتطلب عمالة لديها مهارات حديثة وهي عمالة تفتقدها سوق العمل وكل هذه العوامل تدفع بالأجور في اتجاه تصاعدي.

في هنغاريا انخفض معدل البطالة إلى ما دون 4 في المائة في خريف سنة 2018 بينما زادت الأجور الحقيقية 6-7 في المائة سنويا خلال السنوات الثلاث الماضية على الرغم من توقف نمو الإنتاجية ، الذي يبدو أنه عائد إلى هجرة العمالة الماهرة. إن أصحاب العمل يشكون من نقص العمالة ويقال إن الشركات المتعددة الجنسيات أصبحت تفكر في نقل نشاطها إلى الغرب مجددا أو إلى دول مرشحة أخرى للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي تقع في جنوب شرق أوروبا.

إن هذا لا يعد تهديدا فارغا فالمنافسة على إعادة الإنتاج إلى أوروبا الغربية ومن أوروبا الجنوبية في قطاع التصنيع يهدد الوظائف التقليدية في وسط أوروبا. إن الأتمتة والتغيرات التقنية السريعة في إنتاج المركبات تجعل من السهولة بمكان نقل المنشآت إلى الاقتصادات الأوروبية المتقدمة ذات الأجور الأعلى ما يسهل من الوضع اللوجستي للشركات. إن الدول المرشحة لعضوية الاتحاد الأوروبي الجنوبية هي في طور تطويع قوانينها بما يتوافق مع تشريعات الاتحاد الأوروبي ما يخلق بيئة أعمال تتوافق مع الاتحاد الأوروبي بالنسبة للاستثمار الأجنبي المباشر علما أن مستويات الأجور لديها هي أقل بكثير من الأجور في وسط أوروبا.

إن هذا الموضوع هو الذي جعل الحكومة الهنغارية تتقدم بتعديلاتها لقانون العمل الإضافي فالقانون يسمح لأصحاب العمل أن يطالبوا بما لا يزيد على 400 ساعة من العمل الإضافي سنويا (بما يعادل 50 يوم عمل إضافي) على أن يتم دفع أجر العمل الإضافي خلال فترة ثلاث سنوات وإذا ترك الموظف العمل قبل التاريخ المحدد في العقد فإنه من الممكن عدم دفع الأجر على الإطلاق، وبسبب سيطرة حزب أوربان فيديسز على ثلثي الغالبية البرلمانية فقد تم تسريع إقرار القانون في فترة تقل عن شهر.

لقد تفجرت الاحتجاجات ما أجبر الحكومة على تفسير بعض عناصر القانون المعدل بمرونة أكبر. إن فترة التشاور المحدودة وردة الفعل الشعبية القوية تذكرنا بمحاولة الحكومة سنة 2014 فرض "ضريبة الإنترنت" التي تم سحبها بسبب الاحتجاجات الشعبية.

إن التدخلات واستخدام السلطات التقديرية التي تأتي من أعلى الهرم هي شيء معتاد بالنسبة للحكومات اليمينية، ولقد رأينا استخدام تخفيضات أسعار الخدمات العامة وتعاملات الأصول غير القائمة على سياسة السوق في دول وسط أوروبا في السنوات الأخيرة وفي الولايات المتحدة الأمريكية يضغط دونالد ترمب على الشركات الفردية أن لا تقوم بتسريح العمال أو إعادة نقل أنشطتها إلى الخارج.

وكما قال تيم وو من جامعة كولومبيا في كتابه الجديد "لعنة الضخامة " فإن الشركات الضخمة والأشخاص السلطويون عادة ما يتآمرون معا في مقابل خدمات محددة ، تتمتع الشركات بمعاملة تفضيلية، مثل سلطات احتكارية واحتواء حقوق العمال. وفي هنغاريا فإن الشركات المتعددة الجنسيات تعتبر المستفيدة الأولى من "قانون العبودية" ولكنها ليست الوحيدة، فحتى الحكومة الآن تجادل بأن المستفيد الأول هي الشركات الصغيرة والمتوسطة الحجم التي تضم القطاع الخاص الجديد والمترابط سياسيا.

إن وسط أوروبا على مفترق طرق اقتصادية. إن نموذج التقارب القديم الذي يحركه التصدير والقائم على أساس القدرة على الوصول لسوق وتمويل الاتحاد الأوروبي الذي يدعم الاستثمار الفعلي وزيادة الإنتاجية وتكاليف العمالة المنخفضة قد خدم المنطقة جيدا ولكنه استنفذ أغراضه. تحتاج وسط أوروبا إلى نموذج نمو جديد قائم على الابتكار وليس على أجور العمالة بل على العمالة عالية الجودة، وهذا يتطلب الاستثمار في التعليم والتدريب المستمر إضافة إلى تحسين السياسات الاجتماعية. يجب عمل أولويات الإنفاق بالميزانية على هذا الأساس إضافة إلى تشجيع الحرية الأكاديمية والإبداع والحوار – وهي بالكاد موجودة حاليا.

لكن الديمقراطيات غير الليبرالية في المنطقة ستعاني صعوبات أثناء إدارة هذا التحول لإنها تردع التفكير الحر والابتكار كما أنها تحتقر المؤسسات التي تحركها الخبرة. وفي هنغاريا على سبيل المثال فإن الأغلبية البرلمانية للحكومة هي البديل عن الحاجة إلى التشاور مع المعارضة أو العمل مع أفضل العقول والمواهب في البلاد.

إن الأخبار الطيبة هنا هي إنه عندما تصبح الحاجة إلى التعامل مع التغير الاقتصادي لا يمكن تجنبها، فإن العيوب الطبيعية للديمقراطيات غير الليبرالية ستؤدي في نهاية المطاف إلى تآكلها. إن المظاهرات والعصيان المدني التي تجري حاليا في هنغاريا يمكن أن تكون بمنزلة جرس إنذار بما قد يحدث مستقبلا.

إنشرها

أضف تعليق

المزيد من السياسية