FINANCIAL TIMES

ماي تدفع عربة بروكسل إلى الخروج من المسار

ماي تدفع عربة بروكسل إلى الخروج من المسار

تصويت مجلس العموم ضد صفقة تيريزا ماي بشأن "بريكست"، لم تكن مجرد ضربة تاريخية لرئيسة الوزراء البريطانية فحسب؛ بل هي أيضا لحظة حساب لاستراتيجية الاتحاد الأوروبي الراسخة، بشأن خروج المملكة المتحدة من التكتل.
منذ التصويت على الاستفتاء في بريطانيا في عام 2016، تصرف الاتحاد الأوروبي إلى حد كبير كما لو أنه ليس هناك خيار أساسي بين ترتيب خروج منظم للمملكة المتحدة، والحفاظ على وحدة وسلامة المشروع الأوروبي. أي أن العبء كان على بريطانيا، وحدها، كي تتنازل، وإلا ليس هناك من خيار سوى الخروج عبر الطلاق بلا اتفاق.
الحجم الهائل لهزيمة مسودة صفقة "بريكست" – معاهدة مكونة من 585 صفحة ثقيلة، تم التفاوض عليها بدقة على مدى 18 شهرا – تثير الشكوك في ذلك النهج، ما يجبر كلا الطرفين على إعادة النظر في أفكارهما، حول ما هو ممكن سياسيا في الأشهر المقبلة.
هوسوك لي-ماكياما، مسؤول تجارة سابق في الاتحاد الأوروبي يرأس الآن المركز الأوروبي للاقتصاد السياسي الدولي، قال إن مسودة الصفقة كانت انتصارا، إلا أنه كان انتصارا مكلفا للتكتل.
وأضاف أن مفاوضي الاتحاد الأوروبي حصلوا على شروط مواتية للغاية من بريطانيا، لكنهم "خاطروا بالخسارة لأنه لا يمكن المصادقة عليها. الكرة هي بالتأكيد في ملعب الاتحاد الأوروبي" الآن.
ستصر بروكسل على أن تأخذ لندن المبادرة في أعقاب التصويت. على أن كبار مسؤولي الاتحاد الأوروبي الذين في قلب المفاوضات، يرون أن النتيجة هي تنبيه من أجل الالتفات إلى الواقع على ثلاث جبهات: تاريخ خروج بريطانيا المقرر في التاسع والعشرين من آذار (مارس) المقبل؛ ومتانة مسودة اتفاقية وصفت في السابق بأنها العرض "الأفضل والأخير"؛ ومسألة كيفية التعامل مع تأثير "بريكست" بدون صفقة على حدود إيرلندا الشمالية، ألا وهو الموضوع الأكثر إثارة للجدل والمعروف بـ: "جدار الاستناد".
هناك كثير من الأمور على المحك: أقلية في بروكسل تسأل الآن عما إذا كان ينبغي أن يكون تركيز الاتحاد الأوروبي الآن أكثر على تجنب "بريكست" تماما.
استجابة أولية
في حين أن توتر الأعصاب بشأن "بريكست" قد زاد في بعض العواصم الأوروبية، إلا أن الاستجابة تعتمد على وضع ماي الآن بعد التصويت.
جان كلود يونكر، رئيس المفوضية، كتب تغريدة عن "أسفه" من الهزيمة. وقال: "أحث بريطانيا على توضيح نواياها في أقرب وقت ممكن. الوقت يشارف على الانتهاء".
التوقع تحضير التكتل لعدم التوصل إلى صفقة، لكن دونالد توسك، رئيس المجلس الأوروبي، وكثير من الدول الأعضاء مترددون في الدعوة إلى عقد قمة حول "بريكست" قبل "أن تهدأ الأمور" في وستمنستر.
بدلا من المقامرة على قمة مع "لا شيء لمناقشته"، يريد جانب الاتحاد الأوروبي أن تتطور المفاوضات لإجراء تغييرات واضحة ومعقولة بشأن المطالب البريطانية، بعد رفض المشروع أمام البرلمان. قال دبلوماسي أوروبي: "أسوأ شيء بالنسبة للجميع سيكون مجلسا أوروبيا ينزلق إلى الخلافات ومزيدا من الفوضى".
الجدول الزمني لـ"بريكست"
يوجد بالكاد دبلوماسي يعمل على "بريكست" يعتقد أن التاسع والعشرين من آذار (مارس) المقبل سيكون يوم خروج بريطانيا. هناك تحول كبير حدث خلال عطلة عيد الميلاد، في الوقت الذي بدأ فيه مارتن سيلماير، رئيس موظفي الخدمة المدنية في المفوضية، استكشاف السبل القانونية لإطالة العملية.
يرجع هذا جزئيا إلى أن مفاوضي ماي أوضحوا سرا أنه إذا كانت محاولات حكومتها للفوز "بتصويت هادف" على صفقتها ستدخل العام الجديد، فلن تتمكن بريطانيا من تمرير كل تشريعات التصديق اللازمة قبل نهاية آذار (مارس) المقبل.
حتى في سيناريو عدم التوصل إلى صفقة، من المتوقع أن يمدد كلا الجانبين التاريخ للسماح بإجراء الاستعدادات.
السؤال المفتوح هو ليس ما إذا بل متى ستطلب بريطانيا التمديد؟ إذا احتفظت ماي بالسلطة لإجراء تصويت ثان على صفقتها في الأسابيع المقبلة – بعد السعي إلى إجراء تغييرات بسيطة نسبيا – قد لا ترغب في تخفيف الضغط فيما يتعلق بالموعد النهائي الوشيك.
في المقابل، فإن طلب إجراء إعادة تفاوض ذي طابع أساسي أكبر – أو بالتأكيد كسب الوقت لإجراء استفتاء ثان أو انتخابات – يجب أن يكون مصحوبا بطلب من بريطانيا للتمديد.
تغيرت وجهات النظر داخل الاتحاد الأوروبي حول كيفية الرد. على الرغم من أن فرنسا لا تزال مترددة، إلا أن من المرجح أن يوافق قادة الاتحاد الأوروبي على تمديد لغاية الأول من تموز (يوليو) المقبل، حتى لو كان ذلك في المقام الأول للتعامل مع المأزق السياسي في بريطانيا.
قال مسؤول أوروبي: "إذا طلبت تمديدا ستحصل على واحد. هذا هو ما تغير". على أنه من المرجح أن يتم إرفاق بعض الشروط السياسية.
هناك فريق بين مسؤولي الاتحاد يرى ميزة في التمديد لفترة أطول، ومن المحتمل أن يصل إلى نهاية العام، لمنح بريطانيا الوقت "لإنهاء الاضطراب".
هذا يواجه عقبة سياسية كبيرة: الحاجة إلى انتخاب بريطانيا أعضاء للبرلمان الأوروبي الجديد قبل جلسته الأولى في تموز (يوليو) المقبل. وقد طلب من قانونيين البحث عن حلول، لكن لم يتم العثور على أي إجابات مضمونة.
إعادة التفاوض
كان المفاوضون قد رأوا النتيجة "الأكثر خطورة" بالنسبة للاتحاد الأوروبي، على أنها هزيمة بهامش ضئيل للسيدة ماي في تصويت مجلس العموم، الأمر الذي كان من شأنه أن يمنح رئيسة الوزراء البريطانية النفوذ للسعي إلى الحصول على تغييرات كبيرة ومهمة لمعاهدة الانسحاب.
خسارتها المدمِّرة في وستمنستر تشير إلى أن تغييرات أوسع بكثير قد تكون لازمة لضمان موافقة البرلمان.
التغيير الكبير الأكثر وضوحا في الواقع، من شأنه تحديد موعد نهائي لخطة الجدار الاستنادي، لتفادي الحدود الصعبة على جزيرة إيرلندا. خطة الجدار الاستنادي مكروهة من قبل مؤيدي "بريكست"، الذين يعتبرونها "فخا" يمكن أن يبقي المملكة المتحدة في اتحاد جمركي مع الاتحاد الأوروبي، طوال عقود قد تطول.
بعض الدول الأعضاء ليس لديها اعتراض على مفهوم وقت محدد بالنسبة لخطة الجدار الاستنادي، إلا أنها تريد لأية تسوية أن تأتي من إيرلندا؛ حيث لا تبقى أي رغبة لتجاوز صلاحية رئيس الوزراء الإيرلندي، ليو فارادكار، علنا.
أوضح فارادكار لبرلين وباريس أنه يفضل عدم التوصل إلى صفقة على خطة جدار استنادي ذي وقت محدود، وذلك وفقا لأشخاص مطلعين على المحادثات. قال أحدهم: "بإمكانه لوم البريطانيين للتسبب في هذه الفوضى".
يرى كثير من كبار الدبلوماسيين في الاتحاد أن الضغط على إيرلندا سيكون بشكل غير مباشر، في الوقت الذي تتسارع فيه التحضيرات لعدم التوصل إلى صفقة.
في غضون بضعة أسابيع، سيتحول الاتحاد الأوروبي إلى مسألة الحدود الإيرلندية، وهي موضوع محظور حتى الآن.
كان فارادكار قد قال إنه لن تكون هناك حدود صعبة تقسم إيرلندا تحت أي ظرف من الظروف، وهو موقف تراه بعض الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، غير محتمل في حالة عدم التوصل إلى صفقة.
إذا كانت ماي ستسعى الآن إلى إعادة التفاوض على أمور أساسية أكثر لحزمة "بريكست"، فإن الحسابات ستتغير.
وفقا لأحد كبار الشخصيات في الاتحاد الأوروبي الذي يشك في إمكانية إعادة تفاوض كبيرة: "هذا سيناريو كابوس. طوال الوقت، كانت استراتيجيتها قائمة على التضحية بالإيرلنديين. هذا لم يحدث قط، ولن يحدث".
يتوقع آخرون في بروكسل أن إجماعا بين الأحزاب سيكون ضروريا في مجلس العموم، الأمر الذي سيتطلب نسخة أكثر ليونة من "بريكست".
هذه النسخة ستكون قائمة على اتحاد جمركي دائم أو ترتيبات على غرار وضع النرويج، من شأنها إبقاء المملكة المتحدة في السوق الموحدة للتكتل.
قد يرغب الاتحاد الأوروبي في الانتظار إلى أن يكون الطريق إلى أغلبية واضحا في وستمنستر قبل الشروع في إعادة فتح المفاوضات.
كما كتب توسك في تغريدة: "إذا كانت الصفقة مستحيلة، ولا أحد يرغب في عدم التوصل إلى صفقة، عندها من سيملك الشجاعة أخيرا ليقول ما هو الحل الإيجابي الوحيد؟"
المرحلة الأخيرة من اللعبة
ظهرت انقسامات تكتيكية كبيرة على جانب الاتحاد الأوروبي حول كيفية التعامل مع المرحلة الأخيرة من لعبة "بريكست".
فرنسا وإيرلندا وتوسك اتخذوا نهجا صارما تجاه مطالب ماي للحصول على تطمينات إضافية، بينما بدت ألمانيا ويونكر أكثر استعدادا للتحلي بالمرونة.
هذه الاختلافات تعود جزئيا إلى أهداف مختلفة. أنجيلا ميركل، المستشارة الألمانية، تشعر بقلق متزايد بشأن "بريكست" من دون صفقة أو صفقة صعبة، والتداعيات الجغرافية السياسية الناجمة عن مثل هذا الانفصال الحاد.
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أكثر انتباها للعواقب السياسية المترتبة على "بريكست"، بالنسبة للسياسة الشعبوية في بلده وسلامة مشروع الاتحاد الأوروبي.
يونكر حريص على إنقاذ الصفقة. في المقابل، أوضح توسك أن النتيجة المثالية لـ"بريكست" في رأيه ستكون عدم وجود "بريكست" على الإطلاق.
من المحتمل أن هذا الرأي يتشاركه عدد لا بأس به من قادة الاتحاد الأوروبي، إلا أن بعض كبار المسؤولين في المفوضية وفرنسا يخشون من أن إجراء استفتاء ثان على عضوية بريطانيا في التكتل، سيخاطر بانتقال التوتر السياسي في بريطانيا إلى اتحاد أوروبي ضعيف، ما يؤدي إلى إلحاق أضرار دائمة به.
لذا فإن البعض "يعتقدون أنه من الأفضل إخراجهم وإبقاؤهم بعيدين"، أي البريطانيين، بحسب الشخصية البارزة في بروكسل.
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من FINANCIAL TIMES