ثقافة وفنون

التنوير العربي .. مطارحات الأمس وفهلوات اليوم

التنوير العربي .. مطارحات الأمس وفهلوات اليوم

يكتشف المتصفح لدلائل ما يعرض من كتب في كبرى معارض الكتب العربية أننا نعيش على وقع موجة تصحر حادة، فالأمة العربية دخلت منذ سنوات مرحلة جفاف فكري وقحط ثقافي، لم تشهد له نظيرا عبر التاريخ، لا لجهة التأليف والكتابة والإبداع؛ فالأمر متيسر بشكل منقطع النظير مع الثورة التكنولوجية، حد الشكوى من الإسهاب الذي تحول إلى التخمة، وإنما من حيث المشاريع المعرفية والفكرية، حول القضايا الراهنة والمداخل الممكنة لنهضة الأمة العربية.
إننا نفتقر إلى مفكرين عضويين؛ بتعبير أنطونيو جرامشي، مهمومين بواقع شعوبهم وقضايا أوطانهم، قادرين على تصريف هذا الانشغال في مؤلفات وكتب، يطرحون فيها زبدة ما بدا لهم من رؤى وأفكار؛ في معرض تشخيصهم لأعطاب الذات، والبحث عن الحلول المناسبة لها.
منذ اللحظة الأولى لاكتشاف التفوق الغربي، عقب المواجهات العسكرية المتوالية بين الفسطاطين في مواقع شتى؛ لم تتوقف المحاولات الفكرية على امتداد العالمين العربي والإسلامي، عن التناسل بحثا عن السبل الممكنة لمعانقة التغيير الذي ستسير الأمة على هديه؛ قصد اللحاق بركب الأمم السالكة، في مدارج المدنية والتقدم والازدهار الإنساني.
شهدت هذه المساعي تقديم أربع محاولات كبرى، تتقاطع حول فكرة "الإصلاح"، وتتخذ من تجديد الخطاب الديني مدخلا لها. ارتبطت الأولى بالشيخ محمد عبده ومدرسته في الإصلاح الديني، القائمة على ثنائية تحقيق السنن في النهوض، وإصلاح شأن المؤسسات الدينية. فيما كانت الثانية مع تجربة محمد إقبال في تجديد التفكير الديني في الإسلام، الذي تمزج رؤيته الإصلاحية بين الاعتراف بالجديد، والاعتصام ببعض القديم. أما محاولة عبد الرزاق السنهوري فقد تأثرت بخلفيته المعرفية، فدعh إلى وجوب التدخل للملاءمة بين المدني والشرعي، عند اشتراع القانون في الدولة الحديثة، فيما جاءت محاولة الجزائري مالك بن نبي أعمق قليلا، فطرحه في الحضارة، ينم عن نظرة جيوستراتيجية، يمكن اعتمادها سبيلا للخروج بتحالفات كبرى من القابلية للاستعمار.
امتدت هذه المحاولات الإصلاحية الكبرى، زمنيا طيلة القرن العشرين، وجغرافيا على امتداد العالم الإسلامي، ثم ما لبثت أن تحولت إلى مدارس صار لكل واحدة تلامذة وأنصار، يدافعون عن الأطروحة المرجعية لهم. ومنهم من عمد إلى مراجعة بعض الأدبيات، مقدما نفسه مجددا ومطورا لبعض أفكار المؤسس الأول.
بعيدا عن المدخل الديني، برزت إلى الواجهة محاولات أخرى اختار أصحابها مداخل أخرى، بحسب الحقول المعرفية التي تخصصوا وراكموا فيها، لمقاربة أحوال الأمة، وكشف السبل الممكنة للرقي بها.
مغربيا، يمكن الحديث مثلا عن أطروحة الراحل محمد عابد الجابري عن «العقل العربي»؛ المفصلة في أربعة مصنفات، يشرح فيها أسس تحرير وتحرُر هذا العقل من براثين تراث تلزمه الغربلة؛ قصد التأسيس لمشروع نهضوي عربي أصيل، قد يمكن العرب من مسايرة العصر. فيما يذهب شيخ المؤرخين العرب عبد الله العروي، إلى النقيض من ذلك تماما، في مشروعه حول مفاهيم الحداثة (الأيديولوجيا، الحرية، الدولة، التاريخ، العقل)، داعيا إلى القطيعة باعتماد «التاريخانية» التي ترمي إلى تحديث الفكر والمجتمع العربيين.
غير بعيد جغرافيا ومعرفيا، عمل الجزائري محمد أركون على التأسيس لما أسماه بـ«الإسلاميات التطبيقية»، من خلال محاولة تطبيق المنهجيات العلمية على النص الديني، وإخضاعه للنقد التاريخي المقارن، والتحليل الألسني، والتأمل الفلسفي المتعلق بإنتاج المعنى والتفكير في اللامفكر فيه؛ والاهتمام بالجوانب التي تم إغفالها أو تغييبها.
أرض النيل من جهتها، جادت بأسماء ثقيلة كان لها حضور بمشاريع فكرية وازنة في الساحة العربية، منها الراحل نصر حامد أبو زيد "مفكر الاستنارة" أو مؤسس التأويليات كما يلقب، وعبد الوهاب المسيري "مفكر العرب العضوي"، والمفكر حسن حنفي صاحب فكرة "اليسار الإسلامي".
وهكذا دواليك، حد القول إن معظم البلدان العربية لا تخلو من مفكرين قدموا مطارحات من زوايا نظر مختلفة، بحثا عن مخارج للأزمة المزمنة التي دخلها العالم العربي والإسلامي.
فمن تونس مع جعيط، إلى أعماق إفريقيا في السودان حيث طرح الراحل محمد أبو القاسم حاج حمد، وقبله محمود محمد طه وجهات نظر لنهضة المسلمين من سباتهم. ومن سورية مع جودت سعيد وجورج طرابشي، مرورا بلبنان مع حسين مروة والمهدي عامل، وصولا إلى العراق مع علي الوردي هاشم العلوي وعالم سبيط النيلي وآخرين. وامتدت الرؤى حتى خارج الرقعة العربية، فظهرت أفكار هنا وهناك، مع شريعتي وسروش وبيجوفيتش ووحيد الدين خان... وغيرهم.
أفضى هذا التنوع في المشاريع المتدافعة حد الصراع في الساحة الفكرية العربية والإسلامية إلى حرارة النقاش والسجال بين المفكرين، طيلة النصف الثاني من القرن الماضي. وبلغ الأمر درجة تأليف الكتب والمصنفات في المناقشات، وتبادل الردود فيما بينهم؛ فنجد على سبيل المثال قائمة تضم أكثر من 20 مؤلفا، ترد على ما كتبه الجابري حول العقل العربي.
حق لنا اليوم في زمن تضاعف الأزمة أن نتساءل أين نحن من كل هذا؟ لا مشاريع فكرية تقارب ما يجري في واقع العرب، ولا جديد يستحق أن يقرأ في المئات بل والآلاف من الكتب والمؤلفات، التي تظهر في خانة جديد المصنفات العربية سنويا، التي بلغت حد التخمة في الإنتاج بلا جدة في المضمون. وإن حدث وظهر هذا الجديد النوعي، فمن يهتم به ويناقشه، ويجادل فيه نقدا وتمحيصا؟
لقد وجد العقل العربي نفسه في ظلمات بعضها فوق بعض؛ فما إن تلمّس طريقه إلى النور بطرح أسئلة النهوض طوال 50 سنة الماضية، حتى غشيته ظلمات الثورة الرقمية التي يهوي في مدرجها سحيقا، دون أن يعي أين وكيف وأين؟ ما يعني أن حظوظ مساهمة العرب في فك شيفرات الأزمة التي تلوح في الأفق، بعدما بلغ قوس التطور الإنساني مرحلة الارتداد، ستكون ضعيفة للغاية، جراء غياب الوعي بالذات أولا وقبل كل شيء.
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من ثقافة وفنون