FINANCIAL TIMES

من يحدد توجهاتنا؟ نحن أم البيئة أم أحماضنا النووية؟

من يحدد توجهاتنا؟ نحن أم البيئة أم أحماضنا النووية؟

من يحدد توجهاتنا؟ نحن أم البيئة أم أحماضنا النووية؟

خلال أقل من عقدين من الزمن، تراجعت محاولة قراءة الجينوم الوراثي البشري، من مشروع بأفق مرموق مماثل لارتياد الفضاء وبتكلفة مليارات الدولارات، إلى مجرد لعبة رخيصة في غرف الجلوس.
في 2000، أعلن كل من الرئيس بيل كلينتون وتوني بلير، رئيس وزراء بريطانيا آنذاك، أن هنالك علماء كشفوا رسائل الجينوم البشري التي تتألف من ثلاثة مليارات حرف - أو اكتشفوا "اللغة التي خلق الله من خلالها الحياة"، كما عبر عنها الرئيس الأمريكي، بكل جدية.
في 2018، أجرت إليزابيث وارن عضو مجلس الشيوخ الأمريكي الديمقراطية - تشجعت بسبب تحريض ومناكفة من المعارضة - فحصا عاما لحمضها النووي لإثبات أن سلالتها من أصل شيروكي "من قبائل الهنود الحمر".
وقد تبين أن تقديم عينة من سلالة دم غريبة لتحقيق مصلحة سياسية هو سوء تقدير كارثي: تصرفها أزعج كثيرين من الأمريكيين الأصليين، الذين يعتبرون الهوية والثقافة مسألة أكثر أهمية وأكثر قيمة من مسألة فحص الحمض النووي.
ينخرط العلم أيضا في المحاولة نفسها: اختزال الطابع المعقد للهوية الإنسانية في علم الوراثة.
وفي حين إننا نعلم منذ فترة طويلة أن الجينات تبني أجسامنا – فهي التي تحدد لون العيون والشعر، وتؤثر في الطول وشكل الجسم - إلا أن هنالك اقتناعا متزايدا بأن الجينات تنحت العقل أيضا.
بعد أن انخفضت تكلفة تكنولوجيا التسلسل الجيني لتصل إلى بضع مئات من الدولارات، خضع ملايين من الناس لفحوص دقيقة في الحمض النووي، من قبل علماء يحاولون تحديد الإسهام الجيني في تحديد الشخصية والذكاء والسلوك والأمراض العقلية.
هذا هو الجانب المظلم والصعب الذي يجري استكشافه، من قبل ثلاثة كتب مهمة تجسد روح العصر الجديدة للحتمية الوراثية.
إذا كان الحمض النووي هو المسؤول عن بناء الدماغ والعقل - المسؤولين أولا عن تحديد سلوكيات الإنسان - حينها تقع فكرة الذات إلى حد كبير ضمن دائرة الجينات.
فكرة أننا لا نزيد كثيرا على كوننا آلات تحركها بيولوجيا الجسم تثير معضلة عميقة: إذا كانت الجينات التي نرثها تعمل على تحديد الشخصية والسلوك والصحة العقلية والإنجاز الفكري، فأين المجال المتاح لتأثير كل من المجتمع والسياسة الاجتماعية – بل حتى الوالدين – ليكون لها تأثير كبير فينا؟ وماذا عن حرية الإرادة؟
كما يمكن أن نتوقع من خلال إيحاءات العنوان من كتاب المخطط Blueprint يؤيد بشكل صريح هيمنة الجينوم.
روبرت بلومِن، متخصص في علم الوراثة السلوكية ويعمل لدى كينجز كوليج في لندن والمعترف به عالميا "يحتقره البعض" لأبحاثه في مجال علم وراثة الذكاء، وهو يفتتح الكتاب قائلا "الوراثة هي أكثر العوامل أهمية في تحديد هويتنا. إنها تفسر الاختلافات النفسية السائدة بيننا أكثر مما تفعل جميع العوامل الأخرى مجتمعة"، مضيفا أن "العوامل البيئية الأكثر أهمية، مثل الأسر والمدارس، تستأثر بنسبة أقل من 5 في المائة في الاختلافات السائدة بيننا من حيث الصحة العقلية أو مدى الإنجاز الذي نحرزه في المدرسة".
على مدى عقود، كان البروفيسور بلومِن يستخدم دراسات التبني والتوائم لاستخلاص التأثير النسبي للجينات والبيئة.
تتشارك التوائم المتشابهة بما نسبته 100 في المائة من الحمض النووي، وفي حال التوائم غير المتشابهة تنخفض هذه النسبة إلى 50 في المائة "التداخل الوراثي نفسه في حال الأشقاء العاديين".
الأطفال الذين يتم تبنيهم يتشاركون مع والديهم بيئة المنزل، لكنهم لا يشتركون في الحمض النووي، ويتشاركون 50 في المائة من الحمض النووي، دون وجود تأثير لبيئة المنزل، مع والديهم الأصليين.
يمكن لدراسة متأنية أجريت على تلك التباديل أن تشير إلى "صفة التوريث" لمختلف الخصائص والسمات النفسية.
على سبيل المثال، يبين وزن الجسم صفة وراثية تصل إلى نحو 70 في المائة: بالتالي يمكن أن ننسب 70 في المائة من الاختلافات في الوزن بين الأشخاص إلى اختلافات في الحمض النووي.
يغلب على التوائم المتشابهة أن تكون أكثر تماثلا من التوائم الأشقاء غير المتماثلين، والأطفال الذين يتم تبنيهم يكونون أكثر شبها بآبائهم الطبيعيين من آبائهم المتبنين.
يبين مرض سرطان الثدي، الذي يعتقد على نطاق واسع أنه مرض وراثي، إمكانية توريث تصل نسبتها إلى 10 في المائة.
في المقابل، تكون النسبة هي 50 في المائة بالنسبة إلى مرض انفصام الشخصية، و50 في المائة للذكاء العام "القدرة على المحاكمة المنطقية"، و60 في المائة للتحصيل المدرسي. العام الماضي، ادعى بلومِن أن الأطفال ذوي "النتائج العالية في المورثات المتعددة" في مجال التحصيل الدراسي - الذين يعرضون كوكبة من المتغيرات الجينية المعروفة بارتباطها بالنجاح الأكاديمي - حصلوا على درجات جيدة في اختبارات الثانوية العامة بغض النظر عما إذا كانوا ملتحقين بمدارس انتقائية أو غير انتقائية.
والنتيجة التي توصل إليها هي أن الجينات أكثر أهمية من العوامل الأخرى، عندما يتعلق الأمر بالتحصيل في الاختبارات.
ويقول "إنه حتى المنزل، الذي هو في حد ذاته التعريف لكلمة "بيئة"، يكون عرضة للتأثير الجيني".
إذا حقق الأطفال الذين يعيشون في منازل مليئة بالكتب نتائج مرتفعة في اختبارات الذكاء، يكون السبب هو أن الآباء ذوي التحصيل المرتفع في اختبارات الذكاء يغلب عليهم إنشاء بيوت مليئة بالكتب.
إذاً الآباء يمررون ذكاءهم بتوريثه لأطفالهم من خلال جيناتهم، وليس مكتباتهم: "النتيجة العميقة والصاعقة التي تم التوصل إليها هي أن للآباء تأثيرا منهجيا طفيفا في النتائج التي يحرزها أطفالهم، بخلاف المخطط التصميمي الذي تعطيه لهم جيناتهم".
والنتيجة التي توصل إليها هي أن "للآباء دورا مهما، لكنهم لا يشكلون تأثيرا مهما".
هذه ليست الرسالة الوحيدة التي تبدو متناقضة. يصف بلومِن الحمض النووي بأنه "قارئ البخت" ويؤكد في الوقت نفسه أن "علم الوراثة يصف ما هو كائن - ولا يتنبأ بما يمكن أن يكون".
هذا التحذير غريب، نظرا إلى حماسه اللاحق المتمثل في استخدام الاختبار الوراثي للجينات بشكل تنبؤي في كل جانب من جوانب الحياة: في الصحة والتعليم واختيار العمل وحتى في اجتذاب الزوج أو الزوجة.
كما يشير، على سبيل المثال، إلى أننا يمكن أن نستخدم نتائج المورثات المتعددة في مرض الفصام "لتحديد المشكلات على أساس المسببات بدلا من الأعراض".
تبدو هذه الرؤية بشكل مثير للقلق كأنها إضفاء صفة الحالات الطبية المرضية بشكل مسبق.
يعلن بلومِن نفسه أنه مشجع لمثل هذه المضامين، لكن معالجته القضايا الأخلاقية خفيفة على نحو مخيب للآمال.
القابلية لشيء معين ربما لا تظهر أبدا على شكل أحد الأعراض - وإلى جانب ذلك، "الشخص الذي يحتمل أن يكون مصابا بمرض الفصام" فهي ليست الصفة التي أود أن أحملها على ظهري منذ ولادتي.
يعترف بلومن بأن الجبن هو الذي أوقفه عن تأليف مثل هذا الكتاب من قبل، كما قد يكون منعه أيضا من تناول الاختلافات العرقية المزعومة في الذكاء.
هذا إغفال خطير، على اعتبار أنه واحد من عدد قليل من الأكاديميين القادرين على إلغاء المفهوم بشكل موثوق به.
جيمس واتسون، الرائد في علم الحمض النووي الذي يبلغ من العمر 90 عاما، في الفترة الأخيرة صرح مرة أخرى باعتقاده أن السود أقل شأنا من الناحية المعرفية من البيض.
هؤلاء الأشخاص، أمثال بلومِن، المسؤولون عن تأجيج التجدد في الحتمية الوراثية عليهم مسؤولية التحدث - وفي وقت مبكر - ضد الذين يسيئون استخدام العلم لزرع الانقسام. "يكتب بلومِن فصلا ليكون لاحقة تنشر في طبعات مقبلة".
يعتقد كيفن ميتشل عالم الأعصاب أن الجينات تتآمر مع عامل خفي - تطور الدماغ - لتشكيل النفسية والسلوك.
ويدعي بشكل مقنع في كتابه "بالفطرة" Innate أن التطور العصبي يضيف عامل التغير العشوائي إلى نشر المخطط التصميمي الوراثي، ما يضمن الفردية، حتى بين التوائم المتشابهة.
هؤلاء الأشقاء المتميزون، رغم أنهم مستنسخون، إلا أنهم نادرا ما يحققون سمات نفسية متطابقة تماما.
الجينات هي المكونات، لكن الكثير يعتمد على الفرن "لا يمكنك خبز الكعكة نفسها مرتين".
يشرح ميتشل، الأستاذ المساعد في علم الأعصاب في كلية ترينيتي في دبلن، قائلا "في الأساس، الاختلاف الوراثي الذي يؤثر في التطور العقلي هو ما يكمن وراء الفروق الفطرية في السمات النفسية. نحن مختلفون عن بعضنا البعض إلى حد كبير بسبب الطريقة التي يتم من خلالها تركيب شبكة الدماغ قبل الولادة". الأقارب من الناحية الوراثية يتشابهون في طريقة تركيب شبكة الدماغ. لذلك، ينبغي لنا أن ندرس الجمجمة، وليس الكروموسومات فحسب، إذا أردنا تعلم الطريقة التي يتم من خلالها تشكيل الدماغ.
في الواقع، كل واحد منا هو دراسة مصغرة تبين كيف يمكن لمخطط وراثي أن يتغير في ظل تأثير التغير العشوائي، مثل تخطيط قلم الرصاص الذي لا يتطابق تماما مع المخطط الأصلي.
الجينات التي توجه تطور كل جانب من جوانب الجسم تكون متطابقة - لكنك لا تزال شخصا غير متناظر تماما "ضع مرآة أسفل منتصف صورتك وسترى مدى غرابة شكلك حين يكون التناظر تاما".
الأمر الذي يخلب اللب هو أن التوائم المتشابهين لا يُظهِرون دائما الميل نفسه إلى استخدام اليد اليمنى أو اليسرى، على الرغم من اشتراكهم في الحمض النووي والتنشئة.
الأمور التي تجري في الفرن المذكور، أو في الدماغ، لا يمكن أن توصف بأنها بيئية – وهو مصطلح عام يضم كل شيء من العوامل غير الوراثية – لأن هذه الأمور فطرية بالنسبة إلى الفرد وليست مشتركة.
ميتشل يطلق عليها "البيئة غير الخاضعة للمشاركة"، وهي عنصر حاسم، لكنه مهمل في السمات الفطرية. وحين يُقرَن هذا العامل، "فإن كثيرا من السمات هي حتى أكثر فطرية مما يمكن أن تشير إليه تقديرات قابلية الوراثة وحدها".
وهو يصر على أن هذا لا يغلق الباب أمام حرية الإرادة والاستقلال الذاتي. الجينات إضافة إلى التطور العصبي تبرمج بشكل مسبق مسار الفعل المحتمل، وليس الفعل نفسه "ستظل لدينا إرادة حرة، لكن ليس بمعنى أنه يمكننا اختيار القيام بأي شيء عشوائي قديم في أي لحظة... عندما نتخذ قرارات نتيجة التدبر، فإن ذلك يتم من خلال مجموعة محدودة من الخيارات التي يقترحها دماغنا".
ويضيف أن "وجود إرادة حرة لا يعني القيام بأشياء بدون سبب، بل القيام بها لأسبابك أنت".
وتشتمل هذه على الرغبة في التوفيق بين المعايير الاجتماعية والعائلية؛ وعلى عكس بلومِن، يدرك ميتشل حقيقة أن المجتمعات والعائلات تستطيع أن تكون لها آثار مهمة، وهي تفعل ذلك.
وفي حين يناقش المؤلفان الظروف القابلة للتوريث، مثل التوحد وانفصام الشخصية من حيث الجينات المعيبة، فإن راندولف نيس يقلب هذا التفكير رأسا على عقب.
في كتاب "أسباب وجيهة لمشاعر سيئة"، يسأل: لماذا تستمر مثل هذه الاضطرابات لدى البشر، بالنظر إلى أن الانتخاب الطبيعي يغلب عليه أن يتخلص من الجينات "السيئة"؟
بحسب نظريته، يرى أن الأمراض العقلية وسوء الصحة النفسية يمكن أن تكون الأضرار الجانبية الناجمة عن الانتخاب، على مدى الزمن التطوري لآلاف الجينات من أجل البقاء واللياقة البدنية.
التوحد، على سبيل المثال، يشتمل على تداخل وراثي موثق جيدا مع قدرة معرفية أعلى: بعض علماء الأحياء يعتبرون الآن التوحد هو اضطراب في الذكاء العالي.
في الماضي، كان البقاء على قيد الحياة من نصيب الأذكياء، فحسب.
يمكن لنيس، الذي يدير مركز التطور والطب في جامعة ولاية أريزونا، أن يفسر أيضا لماذا تقدم الحياة عذابا ذهنيا وفيرا: "الانتخاب الطبيعي لا يكترث نهائيا بسعادتنا. في حسابات التطور، النجاح في الإنجاب هو المهم لا غير".
كان تشارلز داروين من أوائل من رأوا التشابه في تعابير الوجه بين البشر والحيوانات الأخرى: هذه تشير إلى تراث تطوري مشترك عندما يتعلق الأمر بالعواطف.
الغيرة والخوف، على سبيل المثال، يُعتقد أنهما يعززان البقاء الوراثي: الرجل الغيور الذي يسيطر على شريكته، من المحتمل أن ينتهي به الأمر إلى تنشئة ذريته الوراثية الآتية منه، وفقا لديفيد بوس لعالم التطوري. الخوف يجعلنا حذرين ويبقينا على قيد الحياة.
هذه هي بالتأكيد أسباب وجيهة لمشاعر سيئة، لكن الغيرة الشديدة يمكن أن تؤدي إلى القتل. الخوف الشديد يمكن أن يصبح رهابا يؤدي إلى ما يشبه الشلل.
نوبات الهلع - وهي تجربة شائعة للغاية – هي دلالة على استجابة القتال أو الفرار.
في الوقت نفسه، يعمل القلق على مبدأ كاشف الدخان "استجابة مفيدة غالبا ما تتجاوز الحد المعقول".
يقدم كتاب نيس تفكيرا جديدا في مجال بدأ يتسم بالركود، حتى لو لم تكن الطرق العلاجية الجديدة واضحة على الفور.
العقيدة السائدة بأن كل اضطراب عقلي يجب أن يكون له سبب مميز، يمكن تصحيحه من خلال المواد الكيميائية، لم تكن ناجحة بالكامل على مر العقود.
كذلك فشل علماء الأحياء في الكشف عن أصول مضبوطة للظروف الموروثة مثل الفصام والتوحد، وبدلا من ذلك، وجدوا الخطر منتشرا عبر آلاف الجينات.
إعادة صياغة عيوبنا العقلية والنفسية بصفتها منتجات ثانوية غير مقصودة مترامية الأطراف للتطور، تبدو طريقة مفيدة لفهم السبب في اختلال عقولنا بالطرق المتعددة الفوضوية التي تفعلها.
هذا هو رأي الكلية الملكية للطب النفسي في المملكة المتحدة: لقد أنشأت مجموعة اهتمام خاصة بالطب النفسي التطوري، أخيرا.
بالنظر إلى أن الانتخاب الطبيعي لا يكترث بأن تكون الكائنات الحية سعيدة، أم حزينة، أو مصابة بالهوس أو الكآبة، يلاحظ نيس أن الأمور يمكن أن تكون أسوأ، "بدلا من الارتياع من معاناة الحياة، يجب أن نشعر بالدهشة والإثارة من معجزة الصحة العقلية بالنسبة إلى هذا العدد الكبير من البشر".
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من FINANCIAL TIMES