ثقافة وفنون

تدوين اليوميات .. أدب أصيل امتهنته الأقنية الحديثة

تدوين اليوميات .. أدب أصيل امتهنته الأقنية الحديثة

طالما طُرح التساؤل حول ما إذا كانت "كتابة اليوميات" - أي السرد اليومي لحياتنا - نشاطا ينتمي إلى الكتابة، بمعنى آخر هل تندرج اليوميات الخاصة ضمن الأدب؟ وما حقيقة خطاب هذا النوع من الكتابة، وطبيعة ضميرها النحوي "أنا"؟
عادة ما لا يقبل هذا النوع من الأسئلة أجوبة قطعية؛ بالنفي أو الإثبات، نظرا لما يكتنف عناصرها من تعقيد وتداخل ناهيك عن التباين في الدوافع الكامنة وراء إقدام الفرد على تحرير مذكراته اليومية.
يرى البعض في كتابة اليوميات فرصة لتوثيق وتخليد تفاصيل ما يمر به في الحياة من مواقف مفرحة ومحزنة. فيما يعتبرها آخر علاجا؛ فهي بمنزلة بوح ذاتي أو حديث من النفس للنفس، يساعد صاحبه على التفريغ والتنفيس عن صدره، بينما يتخذها ثالث فرصة لتنمية موهبة الكتابة؛ فهي تجمع بين القصص والخواطر والرسائل، وبحاجة إلى تركيز على عدة أمور أثناء الكتابة، متى كانت لدى صاحبها رغبة في نشرها، ليتحقق التقارب والمتعة والفائدة.
يعرف الناقد الفرنسي جورج ماي اليوميات بقوله "اليوميات، وهي مشتقة من اليوم، تكتب يوميا بانتظام، ولا يدون فيها صاحبها كل مرة إلا ما وقع له في الفترة القصيرة التي تفصله عن التدوين السابق". أما زميله فيليب لوجون فيتخلى عن شرط الانتظام اليومي في الكتابة، لمصلحة التأريخ المضبوط، فيقول "ضع التاريخ وقل ما تشاء". كتابة اليوميات إذن سرد شخصي لأحداث؛ مهمة أو عادية، فيغدو الأمر أشبه بالتأريخ. فهل حياتنا تستحق التأريخ؟
لم يحظ فن كتابة اليوميات، حتى بداية القرن الثامن عشر، بالاحترام الذي يستحق، ولم يكسب شرعيته الأدبية؛ على غرار كتب الاعترافات والسيرة الذاتية، إلا مع انبثاق مقولات الفضاء الخاص وانتشار مفاهيم التحليل النفسي. لذا بقيت لوقت طويل، مجرّد تأشير يومي على أحداث خارجية، دون رغبة في النشر.
تاريخيا، تتضارب الروايات بشأن بدايات هذا الفن، بين من يربطه بـ "اعترافات" جون جاك روسو، الذي أدرك تماما تميز وتفرد القالب الفني الذي لهذا الجنس الأدبي، حين كتب يقول "أنا أفعل شيئا لم يفعله شخص قبلي، ولن يقدر شخص بعدي على تقليده". ومن يهوي سحيقا في الزمن، ليؤكد أن القديس سانت أوجستين هو أول من كتب اليوميات في سيرته الذاتية، وتحدث فيها عن تأثير الدين في حياته الخاصة.
وبينهما ظهرت مصنفات عبر التاريخ تشرب من معين هذا الجنس الأدبي، من قبيل كتاب "تأملات" لماركوس أوريليوس، ورسالة حنين بن إسحاق، ويوميات العالم الرياضي العربي ابن البناء المراكشي... ما يفيد أن اليوميات ليست فنا حديثا، ولا نمطا أدبيا خاصا بشعب أو بثقافة ما دون غيرها، فهو فن عريق ومنتشر في الثقافات كافة.
هنا محاولات تصر على تجاهل هذا التاريخ، وتربط قسرا نشأة اليوميات بمؤلف جون جاك روسو، وبمجيء الطبقة البرجوازية، وظهور الشخصية الفردية، وإقدام الأفراد على هذا الصنف من الكتابات.
وجب التمييز بين اليوميات والمذكرات، فالأولى تتضمن أحداثا تركت أثرا فينا أو في محيطنا. أي تدوين يومي يقوم به الشخص المعني، لذا تعد سيرة ذاتية يومية. أما في الثانية، فالتدوين يكون لأحداث جرت وأثرت فينا وفي محيطنا في الماضي البعيد أو القريب. في هذه الحالة نكون إزاء عملية تذكر تسبق الكتابة.
مع الإشارة هنا إلى أن كتاب الرحلات والسير الذاتية واظبوا على جعل ذكرياتهم تحيا على الورق، من خلال كتابة يومياتهم بانتظام، فلم يفوّتوا علينا متعة قراءة تلك الرحلات الرائعة؛ في الطبيعة والحياة الإنسانية.
تصف الكاتبة أبيجيل تشاندلر عملية كتابة اليوميات بروعة، بعدما تحولت لديها تدريجيا "من تفريغ إلى ترجمة للمشاعر". ففي البدايات كانت الكتابة عبارة عن تفريغ لما وصلت إليه من أفكار أو تجارب، ولكن مع الوقت تطورت لتصبح ترجمة للمشاعر الداخلية والخاصة جدا، والسبر في أغوار الذات، خاصة مع احتدام ظروف الحياة والبحث عن حلول للمستعصيات من الأمور.
أدى الإقبال على هذا القالب الفني إلى ظهور تصنيفات فرعية داخله، فنجد يوميات تغيب فيها "الأنا"؛ كما في "يوميات معمل" للفيلسوفة الفرنسية سيمون وايل، ويوميات فرانز كافكا. ويوميات تخلط بين "الأنا" و"الغير"؛ مثلما نجده عند بول ليوتار في "يوميات مختلفة"، التي تحدث فيها عن مغامراته الغرامية مع طباخته وكاتبته وعشيقته ماري دورموا. ويوميات مرتبطة بالألم، وفيها "يوميات سرير الموت" للكاتب المغربي محمد خير الدين الذي كتب عن ذاته وهي تخوض تجربة المرض بالسرطان، وتلاحق تطوراته يوما بيوم، متأملا في العالم والناس والموت والحياة.
عودة الأسئلة حول تصنيف هذا القالب الفني استدعتها الحيوية والانتعاش اللذين عرفهما مع طفرة وسائل التواصل الاجتماعي، حيث أضحى التغريد والتدوين مقابلا موضوعيا اليوم لأدب اليوميات وثقافة المفكرة. فالثورة الرقمية، كما يقول أحدهم، نقلتنا من سؤال الهوية من أنت؟ في زمن الهاتف الثّابت، إلى سؤال الحالة: كيف حالك؟
لكن هل يمكن اعتبار ما يروج في صفحات الشبكة من أجوبة عن هذا السؤال ضمن صنف اليوميات، خاصة أنها تحتوي على شرط التقاسم وكشف الإنسان لما بداخله مع أشخاص مجهولي الهوية. وهذا يحلينا إلى أحد أسباب ظهور هذا النمط الإبداعي؛ حيث يتم فيه الاعتراف، والحديث عن الذات، والاضطراب الداخلي..
إن تحويل كثيرين صفحاتهم في مواقع التواصل الاجتماعي لما يشبه يوميات للاعتراف اليومي، تعسف على فن أدبي أصيل، له أعراف وتقاليد، وتقنيات وطقوس، وأسلوب وخصائص. طالما كان التقيد بها عند كتابة اليوميات ضمانا لبث الحياة في ذكرياتهم على ورق.. وهو ما لا يتعين راهنا مع ثقافة اللصق والحذف والتعديل.
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من ثقافة وفنون