FINANCIAL TIMES

رسالة من الأمس .. لا تثقوا تماما بالبيانات الكبيرة

رسالة من الأمس .. لا تثقوا تماما بالبيانات الكبيرة

مذبحة الفئران الكبرى في هانوي عام 1902 تعد تذكيرا ممتازا بلماذا ينبغي أن نكون حذرين بشأن البيانات التي نقيسها ونكافئها.
المسؤولون الاستعماريون الفرنسيون في ذلك الوقت، الذين انتابهم الذعر من انتشار القوارض في شبكات الصرف الصحي في المدينة، عرضوا على صائدي فئران محليين مكافأة مقابل كل فأر يتم قتله. ودفعت الحكومة المحلية سنتا واحدا مقابل كل ذيل فأر يتم تسليمه ـ دليل دامغ على إعدام أحد الفئران.
في البداية، البيانات بدت واعدة، لكن للأسف، الخطة انحرفت عن مسارها. أصحاب المشاريع الفيتناميون الماكرون كانوا ببساطة يقطعون ذيول الجرذان الحية وينشئون مزارع للقوارض لتعزيز دخلهم. وبعد بضع سنوات تفشى الطاعون في هانوي.
البيانات التي ننشئها جميعا على هواتفنا الذكية اليوم قد تبدو بعيدة كل البعد عن الإحصائيات الاستعمارية التي أجريت بسبب غزو الفئران لهانوي. لكن مخاطر إساءة تفسير البيانات التي ننتجها تبقى كما هي. الارتباطات في بعض الأحيان تكون زائفة. الدوافع سيتم دائما التلاعب بها. وبتجريدها من السياق، يمكن أن تكون البيانات مضللة، وهي غالبا ما تكون كذلك.
يبدو أن بعض هذه الدروس تتم إعادة تعلمه اليوم على يد عملاقة التكنولوجيا الصينية "علي بابا"، التي تجري تجارب على نظامها للتقييم الائتماني "سيسمي كريديت" Sesame Credit. من خلال التقاط مجموعة واسعة من البيانات حول مئات الملايين من المستخدمين تأمل "علي بابا" في إنشاء مقياس قوي للجدارة الائتمانية للمستهلكين. نتائج نظام سيسمي مبنية على كل شيء من سجلات شراء السوق الإلكترونية إلى أسعار مترو الأنفاق، بالتالي يمكن استخدامها لتقدم تمويلا للمستهلك، أو حجب التمويل عنه.
لكن كما ذكرت "فاينانشيال تايمز"، ثمة فارق كبير بين البيانات الكبيرة والبيانات القوية - شركة علي بابا لم تستخدم بعد تقييمات نظام سيسمي لمنح القروض. بحسب داي شين، أستاذ القانون في جامعة أوشن في الصين، من الصعب بناء نماذج تنبؤية يمكن الاعتماد عليها في مختلف السياقات. وتساءل في حديث لـ "فاينانشيال تايمز"، "الطالب الذي يمارس السرقة الأدبية، هل سيمارس الاحتيال أيضا؟ والشركة التي تخفق في سداد ديونها، هل تتنصل أيضا من عقد بناء"؟
أحد التنفيذيين الأمريكيين في قطاع التكنولوجيا ممن تحدثتُ إليهم أخيرا، أوضح أن تصميم الخوارزميات تم خصيصا من أجل تمييز وتصنف الأشخاص إلى فئات مختلفة. لكن هذا يعني أننا يجب أن نكون حذرين جدا في الفهم التام لماهية البيانات التي يتم تضمينها أو استبعادها في أي أنموذج معين، وما الاستنتاجات التي يمكن استخلاصها بشكل معقول. بخلاف ذلك، التمييز الخوارزمي يهدد بأن يصبح "أول أكسيد كربون البيانات الكبيرة"، على حد تعبيره، فهو عديم اللون والرائحة وربما قاتل. ولن تصبح البيانات آمنة قط إلا إذا كانت "مزودة بالأكسجين" ضمن سياق سليم.
المخاطر الأوسع نطاقا لقياس عديد من جوانب حياتنا رسمها ستيفن ماو، بصورة تنذر بالشؤم، في كتابه المقبل "المجتمع القياسي" The Metric Society. هوسنا بقياس كل شيء، من درجات المدرسة، إلى المظهر الشخصي، والعادات السلوكية، والشعبية يوجد نظاما اجتماعيا جديدا للقيمة، وثقافة "التطابق والأداء"، وعالم من "القصص الخيالية الموثوقة". الإحصائيات ليست مجرد انعكاس للعالم الحالي، بل هي تبني واقعا جديدا بديلا. البيانات لا تستخدم فقط لتنوير وتثقيف المجتمع، بل لتشكيله.
ماو، أستاذ علم الاجتماع الكلي في جامعة هومبولت في برلين، يجادل بأن الهوس بالتقييم الكمي يخاطر باستبدال عدم المساواة العددية بعدم المساواة المادية. الصراع بين الطبقات سيحل محله التنافس بين الأفراد – خذ، مثلا، سائقو تطبيق أوبر الذين يتدافعون للحصول على درجات أعلى. يقول في كتابه "الأرقام تصف، وتوجد، وتنتج من جديد المكانة الاجتماعية. الأرقام هي ما يصنع الرجل".
من يقرر ما الأرقام التي يجب جمعها ومن يحدد أهمية تلك الأرقام، يصبح بالتالي ممارسا للسلطة. لكن المنهجيات التي تستخدمها المنظمات - سواء كانت وكالات دولية، أو مؤسسات حكومية، أو شركات تكنولوجيا عالمية - لاتخاذ تلك القرارات ليست خاضعة لكثير من التدقيق، إن وجد التدقيق أصلا. هذا أمر مهم عندما تحدد الخوارزميات بشكل متزايد ما يحققه الطلاب في المدرسة، وما الوظائف المعروضة على طالبي التوظيف، وما إذا كان السجناء يحصلون على الإفراج المشروط أم لا.
أحد الحلول هو محاولة تقويض مفهوم تكنولوجيات التتبع، وتشجيع الأفراد على إنشاء قصص بيانات خاصة بهم لمراقبة وتحدي قوة أصحاب النفوذ. وقد يؤدي ذلك إلى ثقافة المراقبة من الأفراد الأدنى بدلا من المراقبة من الأعلى. إن الطريقة التي توصلت بها الحركة البيئية العالمية المدفوعة بالبيانات إلى تغيير الجدل حول تغير المناخ لهي مثال مشجع.
بدلا من ذلك، قد تتوقف بعض المؤسسات عن ممارسة اللعبة الكمية، وهو ما يبدو أن جامعة جينت مصممة عليه. في وقت سابق هذا الشهر أعلنت الجامعة البلجيكية أنها ستقلل من شأن المقاييس التنافسية المحددة بطريقة بيروقراطية. بدلا من ذلك أعلن ريك فان دو فال رئيس الجامعة، أنها ستُعزز ثقافة أكثر تعاونية بين مجموعات البحث والكليات برعاية الأكاديميين أنفسهم.
وكتب "تختار جامعة جينت عمدا الخروج من سباق الفئران بين الأفراد والإدارات والجامعات. لم نعد نرغب في المشاركة في تصنيف الناس. الجامعة بالدرجة الأولى هي مكان يُمكن فيه التساؤل عن كل شيء".
هذا يبدو نقطة جيدة للانطلاق.

إنشرها

أضف تعليق

المزيد من FINANCIAL TIMES