ثقافة وفنون

عصر «الشرهون للبيانات» .. مغانم ومغارم

عصر «الشرهون للبيانات» .. مغانم ومغارم

سنة واحدة تفصلنا عن نهاية العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، قرن لا خلاف ولا اختلاف على أنه سيظل قرن التكنولوجيا والرقمنة بامتياز. فعلى مدار السنوات التي انقضت فيه، عاشت الإنسانية على إيقاع "الثورة الرابعة" بتعبير الفيلسوف والأكاديمي الإيطالي لوتشيانو فلوريدي في كتابه "كيف يعيد الغلاف المعلوماتي تشكيل الواقع الإنساني".
كان يُنتظر من الثورة المعلوماتية ووليدها المحظوظ الإنترنت أن تطلق سراح البشر، وتمنحهم مزيدا من الحرية والأمن والأمان. لكن يبدو أننا؛ كما يقول الكاتب والإعلامي البريطاني جيمي بارتلت في كتابه "البشر في مواجهة التكنولوجيا"، قد سلّمنا عن غير قصد كثيرا مما نملك لقوى غامضة، تختبئ وراء جدار الشفرة، وسمحنا لحفنة من الرجال الخياليين في وادي السيليكون بالتلاعب بكل شيء.
تدريجيا، تحولت ظاهرة نقد الثورة الرقمية في الساحة الثقافية الغربية إلى موضة، يسعى من ورائها من يبحث عن خطف الأضواء، ونيل الشهرة، واختصار الطريق نحو "النجومية الفكرية". فلا يستقيم أن نكيل المديح والثناء لكل ما يأتي من هذه الثورة، وبذات القدر من غير المعقول اعتبار كل منتجات هذه الثورة سلبية.
تُعد ثقافة التقاسم "المشاركة" التي ألغت الحواجز، وأنهت عصر الاحتكار إلى الأبد، من غنائم هذه الثورة، حيث يؤكد السوسيولوجي الفرنسي ريمي ريفيل في "الثورة الرقمية" أنه "بعيدا عن كل القيود، فعالم التكنولوجيا الرقمية يشكل وسيلة للتحرر والهيمنة في الوقت نفسه، وفي كل الأحوال فإنه لا يزال في الوقت الراهن وعدا وتحديا".
تضاف إليها "ثقافة الولوج" التي تحدث عنها كاتب فرنسي يدعى جيريمي ريفكين في كتابه "عصر الولوج"، فالعالم بأسره أضحى في متناول أي فرد بنقرة زر واحدة. جراء "التوسع الهائل لشبكات الاتصالات في عالم انتشرت فيه المعلومة والسرعة وعالم التفاعلية، والعلاقة الجديدة من حيث الزمان والمجال. أصبح المرء يسبح أكثر فأكثر في ثقافة الولوج حيث يفقد مفهوم الملكية قيمته".
يفضل ميشيل سير؛ صاحب كتاب "الحقيبة الصغيرة"، التركيز على قدرة هذه الثورة على "إنهاء الوساطة"، فالإنسانية اليوم تعيش على وقع قفزة معرفية جديدة، فالعصر الرقمي "يتيح انتشارا غير محدود للمعارف، كما أن لعبة الربط بين النصوص المتداخلة فيما بينها تدفع إلى الإبداع بإيجاد جسور بين المعارف المنتمية إلى ميادين مختلفة. بينما كانت المعرفة في السابق - على حد تعبير الرجل - تتقسم على شكل طوائف. وتتيح اليوم قراءة علاقة التداخل بين النصوص إيجاد جسور معرفية غير مسبوقة".
مغانم أخرى كثيرة سرعان ما يتضاءل وقعها في النفوس، حين نذكر ما يحذرنا منه فريق المتشائمون من هجوم التكنولوجيا، فما أكثر التهديدات والأخطار التي تحاصرنا يوما بعد آخر جراء الثورة الرقمية، وتدفع بنا نحو مستقبل غامض، يصبح فيه الإنسان مجرد خادم أو عبد مطيع للتقنية، بلا هوية ولا كينونة ولا وجود.
لا يتردد عالم النفس الأمريكي هوارد كاردنر في وصف مواليد ما بعد سنة 2000 بجيل التطبيقات، في كتاب بنفس العنوان، لما توفره لهم التكنولوجيا والبدائل الاصطناعية من قوة إضافية تجعلهم قادرين على صياغة حياة مثالية في العوالم الافتراضية. لكن مع مرور الزمن يرتد الأمر عكسيا، فيضعف هؤلاء ويحولون تدريجيا إلى مجرد منفذين كسالى للوظائف والتعليمات.
إذا كانت الوفرة المعلوماتية مكسبا وميزة لدى أنصار الرقمنة، فهي تهديد بالنسبة إلى الكاتب الأمريكي ألفين توفلر؛ فـ "الإغراق المعلوماتي" الذي بدأ في حقبة السبعينات مع انتشار القنوات التلفزيونية والإعلانات... بلغ ذروته الآن مع هجوم المعلومة الكاسح. وهذا دليل على صعوبة اتخاذ القرار المناسب أو فقط استيعاب معلومات معينة؛ بسبب كثرة المعطيات الواردة للدماغ البشري.
يرى مؤلفا كتاب "الشرهون للبيانات" أن الأمر المهم لفهم عالم الرقميات يكمن في إزاحة النقاب عن الآليات المالية. فمعرفة اشتغال هذه الآليات مدخل لفهم كيفية تسليع كل شيء، وجعله قابلا للمقايضة وللبيع. فالآليات "تقويم أداء شركات الإنترنيت تعلي من قيمة الابتكارات والنجاحات المناسبة للحصول من الزبائن على مزيد من بياناتهم الشخصية، ولإغرائهم بالاستمرار في استخدام ما لديهم من منصات أو أنظمة تشغيل، ولحفزهم لأن يشجعوا أصدقاءهم ومعارفهم على أن يحذوا حذوهم".
ذات الطرح تدافع عنه سوزان جرينفيلد الأكاديمية في جامعة أوكسفورد في كتابها "تغير العقل"، بقدر ما يشكل العالم الرقمي مصدرا أساسيا للمعلومات المباشرة، يمثل بالموازاة مع ذلك سببا نخسر به خصوصيتنا ومميزاتنا الذاتية بشكل سريع، خاصة بعد "انتقال الرقمية في السنوات الأخيرة من المكاتب ومقار العمل إلى غرف المعيشة وجيوب الأفراد".
وبلغ الأمر بالكاتب نيكولا كار؛ أحد ألمع الأسماء المثيرة للجدل بانتقادها المستمر للثروة المعلوماتية والمد الرقمي في الساحة الأمريكية، درجة الحديث في كتابه الصادر قبل نحو ثماني سنوات، بعنوان "تأثير الإنترنت في عقولنا" عن تسطيحات، اعتبرها بمنزلة استغباء للجنس البشري.
لا يستقيم حديث منتقدي - أو بتعبير أدق المحذرين - من أخطار الثورة الرابعة، دون ذكر صاحب "خدعة التكنولوجيا"، الفرنسي جاك إيلول الذي يعتبر التقنية "تمحو مبدأ الواقع، وتفرز اللا واقع الذي يتمّ التعامل معه باعتباره واقعا". وقبله الفيلسوف جون بودريار الذي يربط بين التقنية؛ ومن ثم النظام التقني، وبين اندثار المعنى، ولا سيما في ظل هيمنة مجتمع استهلاك الرموز والصور.
صفوة القول إذن هي أن هذه الثورة؛ التكنولوجية أو المعلوماتية أو الرقمية بحسب التسميات، لن تختلف عن سابقتها من الثورات، فكما تحمل الواحدة منهن معها مزايا ومحاسن يسّرت أمورا كثيرة في مناحي عيش الإنسان المعاصر، تنطوي في ذات الوقت على مخاطر ومساوئ تهدد جوانب عديدة في حياة الكائن البشري. إنها معادلة أقرب ما تكون إلى قاعدة فقهية معروفة مضمونها أن "الغُرم بالغُنم"؛ بمعنى أن الشخص ملزم بتحمل التبعات بنفس درجة قبوله المغانم والمكاسب.
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من ثقافة وفنون