FINANCIAL TIMES

«كروسريل» يحكي قصة فشل أكبر مشروع للنقل في لندن

«كروسريل» يحكي قصة فشل أكبر مشروع للنقل في لندن

«كروسريل» يحكي قصة فشل أكبر مشروع للنقل في لندن

«كروسريل» يحكي قصة فشل أكبر مشروع للنقل في لندن

لم يكن انفجارا بالضبط، إلا أنه كان أشبه "بفرقعة عالية الضجيج"، وذلك وفقا للذين شهدوا ذلك. المقصود بذلك هو العطل الكهربائي في المحطة الفرعية في بادينج ميل لاين في تشرين الثاني (نوفمبر) من عام 2017، الذي قدم أول إشارة تفيد بأن الملكة إليزابيث لن تفتتح خط السكة الحديدية المعروف باسم "كروسريل"، وهو مشروع بقيمة 16.8 مليار جنيه يمر تحت لندن، كان المقرر أن يبدأ تشغليه خلال هذا العام.
الشرارات التي اندلعت من المحول في ذلك اليوم كان يمكن أن تبدو بمنزلة حادثة يمكن التحكم بها، لولا أنه كانت لها عواقب بعيدة المدى، من خلال إطلاق سلسلة من تأخير وإخفاق أدت إلى تأخير مشروع سكة حديدية رائد لمدة عامين، وتجاوز الميزانية بما يصل إلى 2.2 مليار جنيه، ما أدى بالتالي إلى إحداث فجوة كبيرة في الموارد المالية لسلطة النقل في العاصمة البريطانية، لندن.
كان من المفترض أن يكون "كروسريل" مشروعا يشتمل على أحدث التطورات، بحيث يغير طبيعة السفر في لندن بإضافة أكثر من 10 في المائة من السرعة إلى قدرة الشبكة. المشروع، الذي سلمه فريق بارع من الناحية التجارية كان بمعزل عن تدخل السياسيين، وكان من شأنه أن يبين أن انضباط القطاع الخاص في تسلم مشاريع القطاع العام، في الوقت المقرر وضمن التكلفة.
بدلا من ذلك انتهى به الأمر إلى إذلال قادته وإحراج الجهات الراعية السياسية للمشروع.

سقوط رؤوس تحت المشروع
هذه الفوضى أطاحت بتيري مورجان، الذي تنحى من منصبه كرئيس مجلس إدارة مشروع كروسريل وهيئة النقل في لندن هذا الشهر، وسط ادعاءات بسوء الإدارة. رئيس المشروع التنفيذي أندرو وولستنهولم، كان قد غادر في آذار (مارس) الماضي، قبل تلك الأخبار. الآن يهدد الفشل بتوريط صادق خان، عمدة لندن، المتهم بعدم الاهتمام وعدم تحمل المسؤولية، عندما بدأت علامات التحذير تظهر أن المشروع كان في خطر.
في خضم المعركة حول اللوم عن التأخير والتجاوزات، يمكن أن نغفر لسكان لندن والجمهور العام أنهم سألوا سؤالا واحدا بسيطا: كيف يمكن لبعض الأسلاك السيئة أن تحدث مثل هذه الصدمة المدمرة، لواحد من أكبر مشاريع البنية التحتية في أوروبا؟
"كروسريل" المشروع الذي كان في مرحلة تطور منذ فترة طويلة، أطلِق قبل عقد من الزمن، على أعتاب فترة التقشف. حصل المشروع على موافقة رسمية في عام 2008، تماما في الوقت الذي كانت فيه الأزمة المالية تكتسب الزخم.
لطالما كان مشروعا كبيرا يشتمل على حفر نحو 42 كيلومترا من الأنفاق عبر التربة والطين المليئين بالفجوات تحت شوارع لندن.
يقول مارتن بليكلوك، الخبير في البنية التحتية: "باستثناء بناء مفاعل نووي، لا يوجد مشروع يتم تسليمه في الوقت المحدد، أكثر صعوبة من حفر الأنفاق تحت العاصمة وتركيب سكة حديد رئيسة عبرها".
مع ذلك، فإن التسليم في الوقت المحدد والالتزام بميزانية معقولة كان أمرا حاسما. ليس لأن الموارد المالية للبلاد كانت مهلهلة بعد الانهيار الاقتصادي في عام 2008، بل لأنه كانت هناك أيضا شكوى طويلة الأجل بشأن حصة كبيرة فوق الحد من ميزانية تم منحها لعاصمة بريطانيا.
مقابل كل جنيه تم استثماره في البنية التحتية للنقل في أنحاء المملكة المتحدة كافة خلال الأعوام الخمسة الماضية، تم إنفاق ما لا يقل عن 35.6 في المائة في العاصمة، وذلك وفقا للإحصاءات الوطنية.
في الوقت الذي تبلور فيه مشروع كروسريل، اعترض السياسيون على مصدر خوف مألوف: التضخم المتزايد للتكاليف. تمت زيادة الميزانية الأصلية البالغة 15.9 مليار جنيه، لتصبح 17.8 مليار جنيه بحلول عام 2010.
الحكومة الائتلافية استخدمت المبضع الجراحي في ذلك العام وخفضتها إلى 14.8 مليار جنيه "بما في ذلك 600 مليون جنيه للحالات الطارئة"، في مراجعتها الشاملة للإنفاق.
حرصا على حماية مشروع ممول من القطاع العام من التدخلات السياسية، أدخِلت عوامل الحماية ضمن حوكمة مشروع كروسريل.
وفي حين أن المشروع لا يزال ضمن "مغلف" ميزانيته الجديدة الضيقة، إلا أن الجهات الراعية للمشروع – هيئة النقل في لندن والحكومة – لن تكون لها أي حقوق في التدخل.
لقد تم حصرالحق في عضو مجلس إدارة واحد لكل منهما مع حقوق محدودة لتلقي المعلومات. وكما يدعي المسؤولون من هيئة النقل في لندن، فإن أي منهما لم يكن لديه أي رأي فيما يتعلق بالتعيينات، أو العقود أو الرواتب والحوافز التي تدفع للموظفين.
منحت الصفقة رؤساء مشروع كروسريل حرية كبيرة طالما كانوا يلتزمون بميزانيتهم. وقد استفادوا تماما من ذلك، من خلال دفع أجور كبيرة لأنفسهم. عندما غادر وولستنهولم هذا العام تلقى 765689 جنيها، بما في ذلك مكافأة بقيمة 160 ألف جنيه، و97 ألف جنيه كتعويض عن "فقدان الوظيفة"، على الرغم من العلامات التي لا تحصى، التي تفيد أن المشروع كان يتعثر. في العام السابق على ذلك، حصل على 950 ألف جنيه، بما في ذلك مكافأة بقيمة 481460 جنيها.
كان المديرون لا يزالون يواجهون التحديات نفسها التي رزئت بها مشاريع الهندسة المعقدة، خاصة في تجميع مجموعة من المقاولين لتنفيذ الأعمال.
يقول فيليب شيبارد، مستشار يقدم المشورة للمصارف والحكومات فيما يتعلق بمشاريع السكك الحديدية في أنحاء العالم كافة: "دائما ما يكون الأشخاص مغامرين فيما يتعلق بالتكاليف والوقت، لأنهم لا يريدون قول الحقيقة. لا ترغب الصناعة في كثير من الأحيان في إخبار السياسيين بالقصة الحقيقية، لأنهم يريدون العمل، والسياسيون لا يعرفون ما يكفي لذلك، ما يدفعهم إلى الأخذ بوجهة نظر مندوبي المبيعات، الذين سيدفعون آخر وأحدث تطورات التكنولوجيا، حتى وإن لم يتم اختبارها. وغالبا لا تهتم الإدارة، لأنهم يعرفون أنهم لن يكونوا موجودين، عندما لا يتم تسليم المشروع في الوقت المحدد وضمن الميزانية".
لم يكن أي من هذا مهما كثيرا في الأعوام الأولى، عندما بدا مشروع كروسريل بأنه يتقدم بشكل جيد. تم حفر الأنفاق إلى حد كبير من دون وقوع أي حادث، الأمر الذي شجع المراقبين على أن المشروع سيفي بكل مواعيده.
يقول أحد المقاولين: "تم إنجاز الكثير، وتم ذلك بشكل جيد جدا، الحفر في جميع أنحاء لندن، التغلب على كل تلك التحديات، فكان هناك مجرد اعتقاد أننا نستطيع التغلب على أية عقبة".
على أن الوعود بشأن التوقيت والتكاليف أصبحت أكثر أهمية بعد أن اقترب مشروع كروسريل من موعده النهائي.
يقول بليكلوك: "تجميع كل المكونات في الوقت المحدد لإنهاء مشروع كبير مثل "كروسريل" غالبا ما يكون عرضة لعوامل اللبس والمخاطر، ما يؤدي إلى تأخير حتمي وتجاوزات في التكاليف.
باستثناء الأنفاق والمحطات، يجب اختبار كل العربات الدوارة والسلالم المتحركة، ونقل الطاقة والتحكم في القطارات وتسليمها في الوقت المحدد".
هذا ما كشف عن نقاط الضعف الكامنة في الحوكمة. يقول أحد الأشخاص الذين شاركوا في اجتماعات مجلس الإدارة: "كان اهتمام مجلس إدارة مشروع كروسريل هو الموافقة على كل شيء. لقد أيد كل شيء بدلا من المداولة العميقة وطرح الأسئلة".
في الوقت نفسه، لم يعد السياسيون يركزون على الهدف. عندما أصبح خان عمدة قبل عامين، طرد ممثل هيئة النقل في لندن دانيال مويلان من مجلس إدارة مشروع كروسريل، وهو سياسي من حزب المحافظين كان يراقب التكاليف عن كثب، ويطرح كل "الأسئلة الصعبة"، وذلك وفقا لأحد الأفراد المقربين من المجلس.
يقول مصدر آخر قريب من مجلس الإدارة: "كان موقف صادق هو الاتصال بالرجل، عندما يحين وقت الافتتاح وقص الشريط".
بحلول الوقت الذي انطفأت فيه الأضواء في محطة بادينج ميل لاين، كان المشروع يتخلف عن الجدول الزمني. أدى الانفجار إلى سلسلة من ردود الفعل من مواطن الخلل – تأخير الكهرباء إلى الأنفاق المركزية، وبالتالي كل الاختبارات المكثفة التي يجب القيام بها.
في الوقت نفسه، أعمال تجهيز الأجزاء الجوفية للخط – تركيب مصادر الإضاءة الدائمة ومضخات الصرف الصحي – كانت أيضا تتقدم ببطء أكثر مما كان متوقعا.
في الوقت الذي استوعب فيه المدير بحزن شديد المواعيد النهائية التي تم تفويتها، بدأت الإدارة بإدراك مشكلة أعمق – أن العمل كان يتم داخل صوامع مستقلة عن بعضها بعضا.
مارك فارمر، مستشار مستقل قدم المشورة للحكومة بشأن استراتيجية بناء مشروع كروسريل، يقول إن المشروع مثل جميع المشاريع طويلة الأجل، عانى التغييرات الإدارية لدى المقاولين والموردين.
"دائما ما يكون لديك كثير من التغييرات في القيادة في المشاريع الكبيرة التي من هذا القبيل. لذلك على الرغم من أنهم كانوا يقمعون الأخبار السيئة، إلا أنه لم يكن هناك أي من الأشخاص الذين كانوا حول الطاولة في البداية – إنها طبيعة الوظائف من أنه لا يبقى فيها أحد لمدة عشرة أعوام"، حسبما أضاف.
بدأت تظهر آثار ذلك في الوقت الذي اقترب فيه المشروع من الاكتمال. يقول مصدر آخر قريب من المجلس: "إذا كان كل شخص يدير مخاطر صغيرة بنفسه، فمن لديه الإشراف لرؤية الصورة الأكبر؟". بحلول بداية العام، كانت فكرة أنه سيتم افتتاح السكة الحديدية في الوقت المحدد تبدو متفائلة في أفضل الأحوال. كانت هناك عشر محطات جديدة كبيرة – بما فيها من الأعمال الفنية التي اختارتها أبرز معارض لندن – من المفترض افتتاحها بحلول أيلول (سبتمبر) الماضي، لكنها لا تزال جميعا في مراحل مختلفة من الاكتمال، الآن.
في الوقت الذي كان فيه مشروع كروسريل يجتهد من أجل الوصول إلى خط النهاية، ظهرت مشكلة جديدة: ضغوط تقشفية مالية شديدة. وفي الوقت الذي كان فيه المقاولون يسارعون إلى الوفاء بالمواعيد النهائية، التهموا أمواله النقدية المتبقية.
بحلول فصل الصيف، اضطر مشروع كروسريل إلى طلب مبالغ إضافية من الحكومة، حيث حصل على 590 مليون جنيه لتلبية "ضغوط التكاليف المرتفعة في أنحاء المشروع كافة"، ما أدى إلى خرق "مغلف الميزانية" والسماح لوزارة النقل وهيئة النقل في لندن، بالبدء بالتدخل في المشروع.
هذا تبعه قرض طارئ بقيمة 350 مليون جنيه في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، ويقول أحد المراقبين القريب من المشروع: "قيل لي إن هذا كان ضروريا للاستمرار بالدفع للمقاولين يوما بيوم. لقد استندوا فعلا على الدعم المالي".
لا يزال المراقبون يشعرون بالحيرة حول كيف تمكن رؤساء مشروع كروسريل من الموافقة على مبلغ 590 مليون جنيه كتسوية نهائية، ليطلبوا مبالغ أخرى بعد أسابيع. يعتقد مويلان، عضو مجلس الإدارة السابق، أن ذلك مرتبط بالخطة الرئيسة التي كان يتبعها مشروع كروسريل، أي الوثيقة الأساسية التي تحدد من يفعل ماذا ومتى.
ويضيف: "يبدو أنهم التزموا بالجدول الزمني الذي لديهم إلى أن أصبح واضحا أنه لا يمكن تسليمه على الإطلاق. عندما تخلوا عنه، يبدو أنه لم يبق لديهم شيء يعملون عليه. هذا قد يفسر ما يبدو أنه انهيار مفاجئ".
حتى الآن، مع تأمين اتفاقية التمويل الجديدة، لا يزال من غير الواضح بالضبط متى سيتم الانتهاء من المشروع. من المتوقع افتتاح معظم المحطات التي لم تكتمل في العام الجديد، على الرغم من أنه من غير المرجح الانتهاء من شارع بوند وبادينجتون حتى الربع الثاني منه.
فيما وراء ذلك، إذا أراد "كروسريل" أن يفي حتى بالموعد الاحتياطي المبدئي، وهو أواخر عام 2020، فإنه يواجه تحديات مثبطة للعزيمة وباقية من دون حل حتى الآن.
تشتمل هذه التحديات على تحقيق التكامل بين خمس أنظمة مختلفة للإشارة، والفصل بين هيئة النقل في لندن ومشروع كروسريل ومشروع نِتوِيرك ريل، حيث إن شبكتين منهما لا تزالان غير مختبرتين في المملكة المتحدة.
يقول أحد المقاولين: "حل مشكلة برنامج القطار والإشارة والتكامل هو النقطة الأساسية من أجل إعداد الخط ليصبح صالحا للتشغيل. وهذا يتطلب تحقيق معدل حركة 24 قطارا في الساعة في كل اتجاه – أي بمعدل قطار كل دقيقتين ونصف".
في علامة على المتاعب المحتملة في الطريق، فإن برنامج الكمبيوتر على قطارات شركة بومباردييه الكندية، لم يتم تنسيقه حتى الآن مع نظام الإشارة، ما يضطر هيئة النقل في لندن إلى استخدام عربات قديمة على ذلك القسم من الخط، الذي يذهب إلى مطار هيثرو.
يقول أحد المستشارين في المشروع: "في مرحلة معينة ستنجز المحطات وستكون القطارات جاهزة، لكن نظام الإشارة وبرنامج الكمبيوتر لن يكونا جاهزين، وبالتالي فلن تسير القطارات".
يقول شيبارد، إن مشاكل النظام – تكمن في أن معظم نظام الإشارة الحديث ومعدات التحكم موجودة على متن القطارات – وكان من الممكن التنبؤ بها لغاية سبع سنوات من قبل، لو أعطي اعتبار لمخاطر البرنامج والتكلفة الناشئة عن تعقيد النظام.
ويضيف، أن نقصا في كبار المهندسين المختصين في الإشارة "وهو جزء من النقص على المستوى العالمي"، ربما يكون أيضا قد أضاف تحديا آخر إلى المشروع.
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من FINANCIAL TIMES