السياسية

ما بعد «باليرمو» .. الانتقال الليبي والدور الأمريكي الغائب

ما بعد «باليرمو» .. الانتقال الليبي والدور الأمريكي الغائب

أعطى المؤتمر الدولي حول ليبيا الذي عُقد الشهر الماضي في مدينة باليرمو الإيطالية دفعة إيجابية لخطة الانتقال السياسي التي تقودها الأمم المتحدة، على الرغم من الشكوك الكبيرة "التي ساورت المؤتمر". وتوصّل الاجتماع الذي عُقد يومي 12 و13 تشرين الثاني (نوفمبر) إلى إجماع على جدول زمني معدّل لإجراء الانتخابات، ووفر منصة للأفرقة العاملة المهمة التي تعمل على الأولويات الأمنية والاقتصادية، مع تصرف معظم الجهات الفاعلة بلطف تحت شمس منطقة البحر الأبيض المتوسط.
ومع ذلك، يقر التقرير الذي أعده لمعهد واشنطن للأبحاث كل من آنا بورشفسكايا الباحثة في المركز، وبين فيشمان شغل سابقا منصب مدير لشؤون الأردن في "مجلس الأمن القومي" الأمريكي، وباربارا ليف كانت سفيرة الولايات المتحدة في الإمارات قبل انضمامها إلى المعهد كزميلة أقدم. ستتطلب جهود الأمم المتحدة أكثر بكثير من الخطاب الإيجابي في المرحلة المقبلة، وتستطيع الولايات المتحدة مساعدة بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا "البعثة" ومبعوثها غسان سلامة على أفضل وجه من خلال انخراطها على مستوى رفيع مع الشركاء الأوروبيين والإقليميين، ليس فقط من أجل ضمان دعمهم الحقيقي لخريطة الطريق السياسية المنقحة، بل أيضا لصد جهودهم اللا إرادية لمساعدة بعض الحلفاء المحليين على حساب الوحدة الليبية، وهي ممارسة أعاقت التقدم في الماضي. إن تحقيق الاستقرار في ليبيا أمر أساسي لضمان المصالح الأمريكية في المنطقة ضدّ النشاط الإرهابي المتجدد، والحفاظ على إنتاج النفط الليبي، والحدّ من تأثير المنافسين مثل روسيا في منطقة البحر الأبيض المتوسط، وقد سلّط الضوء على هذا الهدف الأخير الأسبوع الماضي جون بولتون مستشار الأمن القومي الأمريكي في الاستراتيجية الجديدة للإدارة الأمريكية تجاه إفريقيا. ويشكّل الانتقال السياسي والحكومة الشرعية المتعاونة عاملَين ضروريين لتحقيق هذه الأهداف، وليس فقط الضربات الجوية الدورية على الأراضي الليبية.

ما الذي حققه "مؤتمر باليرمو"

في حين غالبا ما سلّطت المؤتمرات الدولية السابقة الضوء على الاختلافات بين الأطراف الفاعلة، إلا أن "مؤتمر باليرمو" جمع معظم الأطراف الفاعلة الليبية والدولية ذات الصلة على مستوى رفيع بما يكفي للتعبير عن توافق ناشئ في الآراء حول الخطوات المطلوبة لجهود الانتقال. وحتى إن المشير خليفة حفتر، قائد الجيش الوطني الليبي، قد حضر بعد أن أعلن أنه سيقاطع المؤتمر، على الرغم من أنه وصل في اللحظة الأخيرة وحصر مشاركته في اجتماع منفصل مع سلامة، وجوزيبي كونتي رئيس الوزراء الإيطالي، وفايز السراج رئيس حكومة الوفاق الوطني الليبية، ورؤساء كل من مصر وتونس والمجلس الأوروبي، ورئيسي وزراء روسيا والجزائر ووزير الخارجية الفرنسي. وأبرز من غاب عن هذا الحدث الهامشي هو ديفيد ساترفيلد، مساعد وزير الخارجية الأمريكي لشؤون الشرق الأدنى، الذي كان المسؤول الأمريكي الأعلى في المؤتمر الرئيسي.
وقد أعاد "مؤتمر باليرمو" أيضا إحياء التقدم في مجال الأمن والإصلاح الاقتصادي، حيث تشارك الأمم المتحدة الآن بشكل وثيق. وفيما يتعلق بالأمن، ستواصل "بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا" وشركاؤها الدوليون مراقبة اتفاق وقف إطلاق النار الذي تفاوضت بشأنه الأمم المتحدة في طرابلس، والبحث عن فرص لتوسيع نطاقه إلى خارج العاصمة. وفي غضون ذلك، قام فتحي باشاغا وزير الداخلية الليبي الجديد، الذي حضر "مؤتمر باليرمو"، بإعادة نشر عناصر الشرطة في طرابلس وحصل على التزامات دولية مضمونة لبرامج تدريب طال انتظارها. كما أيّد المؤتمر الحوار الذي تقوده القاهرة لإعادة هيكلة القوات المسلحة الليبية. وفي النهاية، ينبغي الربط بين المسار الأمني لـ "البعثة" والمسار الأمني المصري لتجنب إضفاء الشرعية على هياكل السلطة المنافسة.
وعلى الصعيد الاقتصادي، دفع "مؤتمر باليرمو" بمجموعة من الإصلاحات المؤقتة التي بدأ مصرف ليبيا المركزي في تنفيذها في أيلول (سبتمبر) لمعالجة أزمة العملة والحد من اقتصاد السوق السوداء الذي أثرى الشبكات الإجرامية والميليشيات. وهناك حاجة إلى إصلاحات أكثر فعالية، بدءا من تخفيض قيمة الدينار الليبي ووصولا إلى تخفيض دعم الوقود بشكل كبير. ومع ذلك، أصبحت البلاد تسير أخيرا على مسار اقتصادي إيجابي، مع إعلان المؤسسة الوطنية للنفط عن أعلى أرباحها لهذا العام في تشرين الأول (أكتوبر).

معضلة الانتخابات

دعم المشاركون في "مؤتمر باليرمو" بشكل عام خطة سلامة التي تقضي بتأجيل الانتخابات حتى ربيع 2019 وعقد ملتقى وطني موسع قبل ذلك التاريخ. لكن سيكون من الصعب حتى التقيد بهذا الجدول الزمني المتأخر. ويكاد يكون من المؤكد أن تتشاجر الأطراف الفاعلة الليبية على مكان انعقاد المُلتقى الوطني الليبي والمشاركين فيه وجدول أعماله وفترة انعقاده. والأهم من ذلك، ينبغي أن يرتبط المؤتمر بمسودة الدستور بطريقة ما، إذا كان يهدف إلى وضع مبادئ واضحة ومشتركة على نطاق واسع في جميع أنحاء ليبيا. وفي الوقت الحالي، يسير الدستور على مسار منفصل ومعقّد ويتطلب أساسا قانونياً لإجراء استفتاء حول محتوياته.
والأمر الأكثر صعوبة هو ضرورة إجراء الانتخابات وفقا لقانون انتخابي، الأمر الذي سيتطلب اتخاذ قرارات بشأن نوع النظام "رئاسي مقابل برلماني" والتسلسل، والمحافظات، والتمثيل الإقليمي، وهي قضايا تعتمد على تحقيق قدر من الحسم في مداولات المُلتقى الوطني، وربما عملية صياغة الدستور. وسيشكل إخفاء الخلافات بشأن هذه المسائل وصفة لجولة أخرى من الانتخابات المتنازع عليها، مثل تلك التي أُجريت عام 2014 التي قسمت ليبيا إلى حكومتين متنافستين. وفي المقابل، قد يؤدي إجراء انتخابات مقبولة على نطاق واسع إلى منح الشعب أفضل فرصة لإنهاء الفترة الانتقالية الطويلة ما بعد القذافي.

الحد من التعطيلات

حتى في أكثر السيناريوهات تفاؤلا، قد يواجه التقدم في المسارات السياسية والأمنية والاقتصادية رد فعل سلبي من الأطراف الفاعلة الداخلية والخارجية التي تستفيد من الوضع الفوضوي الراهن. ولذلك، ينبغي أن يواصل سلامة وبعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا جهودهما المدروسة لإشراك جميع الفصائل الليبية الرئيسية مع الحفاظ على دعم الجهات الفاعلة الدولية الأساسية. لقد بذل كبار المسؤولين الإيطاليين جهودا هائلة لدفع الجماعات الممثلة إلى حضور مؤتمر باليرمو، لكن في النهاية، اجتمعت معظم الفصائل الليبية مع الوفود الدولية بشكل منفصل بدلا من الانخراط مع بعضها البعض. وإذا كانت تتعين الإجابة عن الأسئلة الأساسية المتعلّقة بهوية ليبيا الوطنية في المستقبل، فسيحتاج المجتمع الدولي إلى الضغط على هذه الأطراف للتقابل وجها لوجه في الملتقى الوطني.
وتشمل العقبات الرئيسية الأخرى تنفيذ عملية مراجعة لحسابات مصرف ليبيا المركزي، الأمر الذي وافقت عليه حكومة الوفاق الوطني وحفتر في تموز (يوليو)، بعد أن تعهّد هذا الأخير بإعادة منشآت النفط وعائداتها إلى المؤسسة الوطنية للنفط. يجب على الأطراف أيضا أن تستعد لحقيقة أن الوضع الأمني الهشّ قد ينهار في أي وقت، ولا سيما مع تزايد المخاطر السياسية وقيام الميليشيات أو المخربين الإرهابيين باستهداف مؤسسات رئيسية ليبية أو دولية.

الحالة الشاذة: روسيا

برزت ليبيا بهدوء كساحة محتملة أخرى للتدخل الروسي في ظل غياب القيادة الأمريكية. وقد مال الرئيس فلاديمير بوتين نحو حفتر لسنوات، لكنه عمل أخيرا على بناء علاقات مع حكومة السراج والأطراف الفاعلة الأخرى أيضا، مظهرا نفسه كوسيط محتمل.
وعلى نحو مماثل، سعى حفتر بافتخار إلى الحصول على دعم روسيا، حيث كان يسافر إلى موسكو كلما شعر بضغط من الولايات المتحدة أو داعميه العرضيين في مصر والإمارات العربية المتحدة. وكان قد سافر إلى هناك مجددا قبل أيام فقط من انعقاد مؤتمر باليرمو، حيث التقى سيرجي شويجو وزير الدفاع الروسي، و فاليري جيراسيموف المسؤول الكبير في الجيش. ويشير حضور جيراسيموف إلى أن المتعاقدين الروس كانوا يعملون في شرق ليبيا - معقل حفتر - على نحو متقطع خلال السنوات القليلة الماضية، وكان آخرها في الفترة التي سبقت زيارة حفتر.
إن الحصول على دور أكبر في بلد يتميز بأهمية استراتيجية حيوية في شمال إفريقيا من شأنه أن يمنح موسكو نقطة انطلاق للحصول على نفوذ أكبر في باقي أنحاء المنطقة، مع تحقيق عدد من الأهداف الاستراتيجية الأخرى. وستتناسب موانئ ليبيا مع جهود موسكو لتأمين الوصول البحري إلى جيع أنحاء البحر الأبيض المتوسط. كما أن الكرملين حريص على الوصول إلى موارد الطاقة الليبية، وتنشيط مبيعات الأسلحة القديمة، واستئناف العقود الاقتصادية. إضافة إلى ذلك، قد يُظهر الدور الروسي الكبير انتصارا آخر في ظل الفشل الغربي، بما يتماشى مع هدف بوتين الأكبر المتمثل في إبراز القوة على حساب أمريكا، وبالتالي تعزيز شرعيته على الصعيد المحلي، كل ذلك من دون التوصل إلى حل حقيقي للوضع في ليبيا.

أين الولايات المتحدة؟

نظرا إلى غياب مشاركة أمريكية رفيعة المستوى في محادثات مؤتمر باليرمو وغيرها من الجهود الانتقالية الأخيرة، فإن أول نقطة في برنامج عمل واشنطن هي تعيين سفير جديد في ليبيا، وإن كان سيرسل إلى تونس بدلا من ليبيا نظرا إلى المخاوف الأمنية التي أثارها هجوم بنغازي عام 2012. وببساطة، لا يوجد بديل لدبلوماسي أمريكي متفرغ يمكنه أن يعمل على الوصول إلى الجهات الفاعلة المحلية والإشراف على التنسيق الإقليمي المطلوب.
ثانيا، ينبغي لواشنطن أن تنخرط بشكل واضح ومستمر على المستوى السياسي. ويشكّل اجتماع مايك بومبيو وزير الخارجية الأمريكي أخرا مع السراج في بروكسل خطوة تحظى بالترحيب، على الرغم من أنه لو حدث مثل هذا التواصل في مؤتمر باليرمو لكان أكثر قيمة بكثير، مع وجود عديد من الجهات الفاعلة الليبية. وأظهرت الجهات الفاعلة الإقليمية الأخرى والمفسدون المحتملون الأولوية التي يعطونها ليبيا من خلال إرسال رؤساء ورؤساء وزراء.
ثالثاً، يجب على الولايات المتحدة أن تفعل ما تتقنه، وهو إقناع الشركاء الإقليميين المقربين والحلفاء الأوروبيين "بريطانيا وفرنسا وإيطاليا" بمواءمة جهودهم مع برنامج الأمم المتحدة. ويشمل ذلك الأنشطة الثنائية المنفصلة "مثل مكافحة الإرهاب" التي لها تداعيات سياسية مثل تمكين بعض الميليشيات. وبذلك يمكنهم منع الجهود الروسية لمواصلة دعم حفتر كقوة مستقلة مهيمنة.
وأخيرا، يتعين على واشنطن الاعتماد على الميزة الأمريكية التي تفتقدها معظم القوى الخارجية الأخرى، وهي سمعتها كوسيط نزيه. ومن المفارقات، أن هذه السمعة ربما تكون قد تعززت، وبالتحديد لأن الولايات المتحدة ابتعدت عن الانخراط في ليبيا على مدى العامين الماضيين. لقد حان الوقت الآن لانخراط واشنطن من جديد، فجهود بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا تكتسب زخما، والولايات المتحدة هي الوحيدة التي تستطيع إعطاء المجال السياسي اللازم للمضي قدما في المراحل المقبلة من الانتقال الليبي الذي طال انتظاره.

إنشرها

أضف تعليق

المزيد من السياسية