ثقافة وفنون

"لا تقدم اقتصاديا بلا ثقافة" .. حقيقة تؤكدها التجارب العالمية

"لا تقدم اقتصاديا بلا ثقافة" .. حقيقة تؤكدها التجارب العالمية

"لا تقدم اقتصاديا بلا ثقافة" .. حقيقة تؤكدها التجارب العالمية

تكشف التجارب الحقيقية لنمو الشعوب وازدهارها أن المجتمعات لا تنهض اقتصاديا دون النهوض بالتعليم والثقافة، وأي خطط تنموية تغفل هذا الجانب الثقافي المهم مآلها الفشل.
يقول علماء الأنثروبولوجيا إن الثقافة محدد مهم لقدرة الأمة على أن تزدهر، لأن الثقافة تصوغ أفكار الأفراد عن المخاطرة والجزاء والفرصة، حيث تعتبر القيم الثقافية مهمة لأنها تشكل المبادئ الأساسية التي ينتظم حولها النشاط الاقتصادي، وبدون نشاط اقتصادي يغدو التقدم مستحيلا.

الفرق بين كوريا وغانا

يكشف كتاب "الثقافات وقيم التقدم"، لمؤلفيه لورانس هاريزون وصمويل هنتنجتون، عن تأثير الثقافة في التنمية، ويضع مقارنة بين بيانات كوريا الجنوبية وغانا في أوائل الستينيات، فكلا البلدان متماثلان من حيث مستوى نصيب الفرد من إجمالي الدخل القومي، ومن حيث تماثل قطاعات اقتصادهما في مجال المنتجات الأولية والتصنيع والخدمات، كما كان البلدان يتلقيان مساعدات اقتصادية على مستوى واحد تقريبا، ولكن بعد مرور 30 عاما، أصبحت كوريا الجنوبية عملاقا صناعيا يحتل المرتبة الرابعة عشرة بين أضخم الاقتصادات في العالم، تعمل فيه الشركات متعددة الجنسيات والصادرات الأساسية من السيارات والمعدات الإلكترونية وغير ذلك من الصناعات المتقدمة، علاوة على أن دخل الفرد أضحى قريبا من دخل الفرد في اليونان، فيما لم تشهد غانا تغييرات مماثلة، إذ لا يزال نصيب الفرد من الدخل القومي فيها نحو خمس نظيره في كوريا الجنوبية.
وعن ذلك يتساءل الكتاب عن الفارق المثير في التنمية، ويجب بأن لا ريب أن ثمة عوامل كثيرة لها دورها المؤثر، لكن الثقافة لها دور أساسي، إذ إن الكوريين يعلون من قيمة الاقتصاد المزدهر والاستثمار والعمل الجاد الشاق، والتعليم والتنظيم والانضباط، بينما تسود الغانيين قيم مغايرة، والسبب هو الثقافة.

تراجع أميركا اللاتينية وتقدم اليابان

وليست تلك هي الدراسة الأولى أو الأخيرة التي تربط النمو الاقتصادي والتقدم بالثقافة، فالثقافة ومنذ أكثر من نصف قرن تحظى باهتمام علماء الاجتماع، كونها عنصرا حاسما في فهم المجتمعات، وتحليل الفوارق فيما بينها، وتفسير تطورها الاقتصادي والسياسي.
فقد أثبت لورانس هاريزون في كتاب آخر له بعنوان "التخلف حالة عقلية - حالة أمريكا اللاتينية"، صدر عام 1985م، أن الثقافة في الغالبية العظمى من بلدان أمريكا اللاتينية كانت العقبة الأولى والأساسية على طريق التطور، وأثار تحليل المؤلف عاصفة من الاحتجاجات من الاقتصاديين والمثقفين، لكن كثيرين بدأوا في السنوات التالية يرون أن دراسته تتضمن عناصر صائبة.
وفي الطريق إلى هذا التحليل، يصف الباحثون الثقافة المؤثرة في المجتمعات بأنها المنتجات الفكرية والموسيقية والفنية والأدبية، إضافة إلى قيم المجتمع وممارساته ورموزه ومؤسساته وعلاقاته البشرية، والاتجاهات والمعتقدات التي تشكل ركائز لكل ما هو سائد بين الناس داخل مجتمع ما.
ولعل الاهتمام بالثقافة ودورها الفاعل، هو ما جعل العالم يحول انتباهه عن إعادة تعمير البلدان التي خربتها الحرب العالمية الثانية، إلى هدف القضاء على الجهل الذي يخيم على بعض شعوب إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، لكن العلماء يقولون أيضا إن الثقافة ليست متغيرا مستقلا، إذ يؤثر فيها عدد من العوامل من بينها الجغرافيا والمناخ والسياسة وصروف التاريخ.
وفي المقابل، تكشف دراسات العلماء أن المجتمعات يمكن أن تغير ثقافتها استجابة لصدمة كبرى، مثل التجارب الكارثية التي عانت منها ألمانيا واليابان في الحرب العالمية الثانية، وأدت إلى تحول اليابان وألمانيا من أكبر دولتين عسكريتين في العالم إلى مجتمعين من أكثر المجتمعات إيمانا بالسلم.
وكان الاقتصادي الياباني يوشيهارا كيونيو قد كتب حول تقدم بلاده "إن أحد أسباب تطور اليابان هو أنها تملك ثقافة مناسبة لذلك. فقد علق اليابانيون أهمية على المساعي المادية، العمل الجاد، الادخار للمستقبل، الاستثمار في التعليم، وقيم المجتمع".

الثقافة سبب الأداء الأفضل للأقليات

الثقافة أحد العوامل الأساسية التي تسهم في تحقيق التنمية المستدامة وتطور الاقتصاد بكل قطاعاته، والرفع من الناتج المحلي، لذا؛ لا بد من مراعاة هذا البعد في مجال التخطيط.
هذا ما أكدت عليه منظمة اليونسكو في مؤتمراتها، من خلال وضع الثقافة في صميم سياسة التنمية في دول العالم، وهو ما يشكل استثمارا أساسيا في مستقبل العالم، وشرطا مسبقا لعمليات عولمة ناجحة تأخذ في عين الاعتبار مبادئ التنوع الثقافي، كما تؤكد اليونسكو عبر موقعها الإلكتروني على أن التطور لا يترادف مع النمو الاقتصادي وحده؛ بل هو وسيلة لصنع حياة فكرية وعاطفية ومعنوية وروحية أكثر اكتمالا.
وفي دلالة على دور الثقافة في التقدم الاقتصادي، كتب الباحث لورانس هاريسون حول ذلك "كيف يمكن أن نفسر سبب الأداء الأفضل لبعض الأقليات العرقية أو الدينية مقارنة بالأغلبية العظمى للسكان في البلدان متعددة الثقافات، حيث تكون الفرص الاقتصادية والحوافز متاحة للجميع؟"، في إشارة إلى الأقليات الصينية في إندونيسيا والفلبين وتايلاند وغيرها من الدول التي هاجر إليها الصينيون، بما فيها الولايات المتحدة، ونجحوا اقتصاديا، وكانوا مثالا لنظريات علم الاجتماع في ربط الثقافة بالاقتصاد.

تنمية ثقافية

يقول سعد البازعي أستاذ آداب اللغة الإنجليزية غير المتفرغ في جامعة الملك سعود في تغريدة له على تويتر: "أكرر ما قلته سابقا: لو تلقت مؤسساتنا الثقافية ربع ما تتلقاه الأندية الرياضية من الدعم لكانت الحركة الثقافية شيئا آخر".
البازعي أكد غير مرة على أهمية الثقافة في تقدم الدول، ولعل حديثه هذا فتح باب النقاش حول ما تحتاج إلى الدول لتتقدم وتزدهر، مثل الاهتمام بالآداب والفنون بكافة أشكالها، خصوصا مجال المسرح والسينما، وتوفير بنية تحتية متطورة للثقافة من مسارح ومكتبات عامة ومتاحف، إلى جانب سلاسل الكتب والمجلات المتخصصة، لتشكل مجتمعة عوامل تدعم خطط التنمية، إذ تؤكد الدراسات المتواصلة خلال القرن الماضي على أن طريق التنمية يستلزم وجود ثورات ثقافية سلمية في أربعة قطاعات: التعليم، والسياسة، والاقتصاد والحياة الاجتماعية.

إنشرها

أضف تعليق

المزيد من ثقافة وفنون