ثقافة وفنون

خيانة الفلسفة .. من البحث عن الحقيقة إلى ادعاء امتلاكها

خيانة الفلسفة .. من البحث عن الحقيقة إلى ادعاء امتلاكها

يحتفل العالم اليوم باليوم العالمي لأم العلوم "الفلسفة"، الذي قررت منظمة اليونسكو الاحتفال به كل ثالث خميس من شهر نوفمبر منذ عام 2002، قصد التأكيد على أهمية ودور الفلسفة في تطور الفكر البشري، فبسجالها الطويل والمستمر تمكنت الإنسانية من إعطاء معنى للحياة والعمل في السياق الدولي.
ويصادف يوم غد اليوم العالمي للتسامح الذي اختارت الجمعية العام للأمم المتحدة أن تخلده في 16 نوفمبر من كل سنة، بدءا من عام 1996 بعد أن كانت السنة التي قبلها؛ 1995، سنة الأمم المتحدة للتسامح؛ بموجب القرار رقم 48/126، التي توافق مرور الذكري 125 على ميلاد المهاتما غاندي رائد التسامح في العصر الحديث.
إذا كانت الفلسفة قد دخلت عزلتها المعروفة بعيدا عن التداول الجماهيري الموسع، منذ عقود من الزمن، والتي ازدادت حاضرا مع الحصار الذي تفرضه موجة التكنولوجيا وهجوم الرقمنة على كلما يتصل بالتأمل والتفكير والنقد، فإن تزامنها مع اليوم العالمي للتسامح؛ هذا العام، فرصة لكسر العزلة عنها، وتجديد النظر في إشكال قديم متجدد عن علاقة الفلسفة بالتسامح في لحظة تتزايد فيه وتيرة العنف والعنف المضاد؟
إطلالة على مباحث الفلسفة أو رموزها عبر التاريخ الحديث وحتى القديم، تكشف أن التسامح حاضر على الدوام في المتن الفلسفي لتلك العصور، فلا تكاد مدرسة فلسفية تخلو من فلاسفة خاضوا في موضوع التسامح، تبعا لما تطرحه أزمنتهم من أسئلة وإشكاليات.
فالعودة إلى الفلسفة الإسلامية للبحث عن فكرة التسامح نجدها عندها الكندي مرورا بعلماء الكلام الذين اعتمدوا المناظرة والجدل وصولا إلى ابن رشد في كتابه فصل المقال، لكن الملاحظ أن معنى التسامح عند الفلاسفة المسلمين على عموم مسمياتهم لا يعني عندهم التسامح ما يعنيه اليوم من دلالة اصطلاحية ذات أبعاد معرفية وأخلاقية واجتماعية وقانونية.
وتطور النقاش مع فلاسفة العصر الحديث لدرجة اختار كثيرون "التسامح" عنوانا لرسائلهم، أمثال رسالة الفيلسوف الإنجليزي جون لوك في التسامح الديني (1689)، والفيلسوف الفرنسي فولتير في التسامح (1763). واستمر التأليف في هذا الموضوع إلى يومنا هذا مع فلاسفة معاصرين، أمثال كارل بوبر "مفارقات التسامح" (1945)، وميخائيل فالزر "محاولة في التسامح" (1998) وغيرهم.
استعادة مفهوم التسامح إذن؛ في ارتباط باليوم العالمي للفلسفة، ينبغي أن تكون نقدية؛ ما دام النقد جوهر الفلسفة، خاصة بعدما أضحى التسامح من الشعارات الإيجابية التي ترفع للتصدي للعنف والتطرف، فنحن في أمس الحاجة راهنا؛ كما في فترات عديدة من التاريخ البشري، إلى محاولة التدقيق في مفهوم التسامح من خلال ربطه بالفلسفة، باعتبار أن الفلسفة هي البوتقة التي تمتحن فيها المفاهيم والمجال الحيوي لإغنائها ومنحها القوة، قوة التأثير في الفكر والسلوك.
ما دامت مهمة الفلسفة عبر التاريخ هي "البحث عن الحقيقة"، فيمكن اعتبارها المجال الحيوي للتسامح بامتياز. بيد أن الفلسفة ذاتها لم تكن على الدوام وفية لهذا المبدأ، ذلك أنها كما يقول الألماني كارل ياسبيرز، غالبا "ما خانت نفسها"، فتجاوزت حدود مهمتها؛ أي "البحث عن الحقيقة إلى ادعاء امتلاكها". ويضيف أنها انزلقت في بعض الأحيان إلى "درجة الانحلال في الوثوقية بمعرفة مصبوبة في صيغ يقينية نهائية وكاملة وصالحة لأن تنقل بالتعليم إلى الآخرين".
تلك الانزلاقات تهدد التسامح؛ المرادف في أبسط تعريفاته للقبول بآراء الآخرين على مبدأ الاختلاف. فانتشار الدوغمائية في رحاب الفلسفة، يعني إلغاء هذا المبدأ، والتوجه نحو الاستبداد والهيمنة؛ فيحل اليقين والقطع محل الشك والتقصي، وتكف الفلسفة عن اعتماد التسامح موقفا فكريا وعمليا، وتفقد هويتها ومزيتها وتتحول إلى ما يعرف باسم الأيديولوجيا، على غرار انقلاب الدعوة الدينية من النقاش والمجادلة بالتي هي أحسن، إلى التمذهب الضيق والغلو والتكفير.
هذا المصير يتربص بالفلسفة في كل وقت وحين، فما إن تتخلى عن مهمتها النقدية، وتكتفي بنقل مجريات الواقع على أنها الحقيقة، وتنساق وراء إغراء السائد حتى تشرعن لصراع المصالح على البحث عن الحقيقة، فتحل اللا تسامح محل التسامح.
قد يحدث عبر التاريخ أن تكون بعض المدارس الفلسفية غاصة في فترات معينة، في أتون الانغلاق والشمولية والتشدد، بيد أن النزوع البشري نحو الفطرة التي هي التسامح سرعان ما يظهر رافعا معول النقد في وجهها، مفسحا المجال لقيم التسامح والاختلاف والتنوع.
وقد بلغ الأمر حديثا جدا درجة التشكيك في ماهية التسامح ذاتها، فالمفهوم؛ بحسب منتقدي من الفلاسفة، يحمل في جذروه نوعا من الاستعلاء والقوة، تجعل المتسامح في وضعية المن والتفضل على المتسامَح معه.
لذا يدعو أنصار هذه المدرسة الجديدة؛ إن جازت تسميتها كذلك، بإحلال مفهوم الاعتراف محل التسامح، فالمبدأ الجوهري الذي يكتنف ماهية التسامح هو الاعتراف، فلا يمكن البتة تصور موقف تسامح بين الذوات البشرية إلا من خلال الاعتراف المتبادل؛ فالطرفان يعترفان نفسيهما من جهة اعترافهما ببعضهما اعترافا متبادلا.
يعد أكسيل هونيث رائد مدرسة فرانكفورت حاليا صاحب هذا الطرح، الذي يؤسسه من محاولة فهم الصراع الاجتماعي على أنه صراع أجل الاعتراف؛ ويفصل في كتابه "مجتمع الاحتقار: نحو نظرية نقدية جديدة" (2006)، وقبله كتاب "الصراع من أجل الاعتراف" (2000) مستويات هذا الاعتراف.
يكشف ما سبق أن مقولات من قبيل "موت الفلسفة" و"نهاية التفلسف" و"اندحار الفيلسوف" أوهام تنتهي صلاحيتها بخروجها من العوالم الافتراضية، فالسجال الفلسفي قائم ومتواصل، بروية وهدوء وفق قواعد ومستلزمات الدرس الفلسفي، بعيدا عن ضوضاء الإعلام والصحافة. ولا أدل على ذلك مما توقفنا عنده بشأن قيمة التسامح، حيث توالت دعوات فلاسفة كثر أمثال: الكندي، وتشارلز تايلور "في سياسة الاعتراف"، والفيلسوفة الأمريكية ناسي فريزر "العدل والاعتراف" إلى تجاوزها والانتقال لمرحلة التأسيس لقيمة الاعتراف.
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من ثقافة وفنون