Author

إيرلندا في «حلق» لندن

|
كاتب اقتصادي [email protected]

"على الوزراء في الحكومة قتل خطة رئيسة الوزراء الخاصة بالانسحاب من الاتحاد الأوروبي"
ديفيد ديفيس، وزير شؤون الخروج من الاتحاد

لا يمكن وصف الحالة السياسية السائدة في بريطانيا حاليا، سوى بـ "الفوضى"، وهي فوضى من تلك التي تزداد فيها الضغائن بين أفراد الحزب الواحد، بل الحكومة الواحدة أيضا. السبب يبقى - كما هو منذ عامين ونصف تقريبا - خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي "بريكست". وكلما اقترب تشرين الثاني (نوفمبر) ارتفعت حدة الفوضى والتحركات السرية والعلنية المريبة. لماذا؟ لأنه الشهر الذي يجب أن يتم الاتفاق فيه بين لندن وبروكسل على الخطة النهائية للانسحاب، ولا مجال للتمديد على ما يبدو، خصوصا بعدما فشلت المحادثات بين الطرفين للوصول إلى حلول عملية وواقعية لبعض القضايا المتعثرة. صحيح أن هناك اتفاقات مبدئية لقضايا كثيرة، لكنها لا تمثل شيئا أمام القضايا المحورية، القادرة على تدمير كل شيء وأي شيء، وتحقيق خروج بريطاني بلا اتفاق أصلا.
القضية المحورية الأولى والأشد بؤسا، هي تلك المتعلقة بمستقبل العلاقات بين إيرلندا الشمالية، الإقليم التابع للمملكة المتحدة، وجمهورية إيرلندا، العضو الكامل في الاتحاد الأوروبي. لا أحد يستطيع على مستوى الحكومة البريطانية، أن "يلعب" بهذا الجانب؛ لأن الاتفاق على فتح الحدود بين الإيرلنديتين تم قبل 20 عاما تقريبا، بعد قرن من الخلافات وأعمال العنف والقتل بين الطرفين البريطاني والإيرلندي. لذلك، تقف مسألة إيرلندا حجر عثرة حتى لو تم حل باقي المشكلات في الزمن القليل المتبقي لإتمام الاتفاق. فإما أن تكون هناك حدود بين شمال وجنوب إيرلندا، وهذا أمر مستحيل، أو أن تكون هناك حدود بين إيرلندا الشمالية وبقية أراضي المملكة المتحدة، وهذا أمر فظيع! لماذا؟ لأنه يفكك في الواقع المملكة نفسها.
وهذا الجانب فظيع أيضا؛ لأن إسكتلندا عادت مجددا للحديث عن الانفصال عن بريطانيا، ومعها مبرراتها التي تكمن في أن غالبية الإسكتلنديين صوتوا للبقاء في الاتحاد الأوروبي، تماما مثل غالبية الإيرلنديين الذين صوتوا كذلك. هذا الوضع يعطي مزيدا من المصداقية للانفصاليين عن المملكة المتحدة، التي قالت مرة تيريزا ماي رئيسة وزرائها "لن أوقع أبدا على وثيقة تفكك بلادي". لكن المسألة ليست التوقيع النهائي، بل ما يحدث على الأرض فعلا داخل هذه المملكة المنقسمة على نفسها بين من يراها غير أوروبية أصلا! ومن ينظر إليها كجزء لا يمكن أن يتجزأ من القارة الأوروبية. ومنذ الإعلان عن نتيجة استفتاء الانسحاب، عرف البريطانيون حقائق مروعة عن تبعات الانسحاب من الاتحاد الأوروبي، بما في ذلك خسائر مالية وخدمات محورية وأمنية وتكنولوجية ودوائية، بل حتى أصحاب الكلاب خرجوا بمظاهرة في لندن ضد "بريكست"؛ لأن الانسحاب ينعكس سلبا على الكلاب نفسها. لم يكن أحد يعرف (مثلا) أن أكثر من 40 في المائة من الأطباء البيطريين في بريطانيا هم من الأوروبيين.
لا شيء في الأفق يبشر بحل للخلافات بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي. حتى إن المسؤولين أنفسهم خرجوا منذ وقت عن خطابهم الدبلوماسي الرقيق. وفي الآونة الأخيرة، استبعدت اتفاقات على شاكلة اتفاق الاتحاد مع النرويج أو كندا. فالمصيبة تكمن أيضا في هذين الاتفاقين. فالنموذج النرويجي يفرض على بريطانيا فتح حدودها لرعايا البلدان الأوروبية الأخرى، وهذا أمر مستحيل؛ لأن أحد الأسس التي يقوم عليها الخروج البريطاني هو إغلاق الحدود في وجه هؤلاء. أما النموذج الكندي فهو أسوأ من الأول؛ لأنه ببساطة يفرض حدودا بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي، بما في ذلك إيرلندا الشمالية! فكلا النموذجين ليسا مناسبين أصلا، فضلا عن أنهما رفضا من حيث المبدأ من الجانب البريطاني الرسمي.
أزمة إيرلندا ليست المشكلة الوحيدة، لكنها المشكلة الأكبر، فهناك مشاكل تتعلق بطبيعة التجارة بين الطرفين بعد الخروج الذي يجب أن يتم في آذار (مارس) من العام المقبل، بل هناك مشاكل على طول المدة الانتقالية للتعاون التجاري. مشاكل كثيرة، إلا أن مشكلة إيرلندا تبقى الأكثر حساسية ليس سياسيا فحسب، بل تاريخيا أيضا. وهي من تلك القضايا التي لا يجرؤ أي سياسي أن يحسم أمرها بصرف النظر عن أي اعتبارات كانت. إنها قطعة في "حلق" بريطانيا، كما هي بيدق رابح للاتحاد الأوروبي. فهذا الأخير لا تهمه إيرلندا الشمالية، بل ما يهمه حقا جمهورية إيرلندا العضو الكامل العضوية فيه. ويبدو واضحا أن من الأسباب التي جعلت اتفاق حل المشكلة الإيرلندية - المعروف باتفاق الجمعة الحزينة - قويا صامدا ومستداما، وجود إيرلندا في شمالها وجنوبها ضمن الاتحاد الأوروبي. الاتحاد وفر الغطاء القانوني الذي لا يترك مجالا للشك، للعلاقات الخاصة بين شطري الجزيرة الإيرلندية، بل وفر للمملكة المتحدة نفسها ضمانات بعدم تفككها.
المستقبل البريطاني ليس مشرقا بسبب "بريكست" الذي أوجده جهل نسبة ضئيلة من الناخبين البريطانيين، مدعومين من سياسيين لا يعدون بلادهم أساسا جزءا من أوروبا.

إنشرها