Author

الجودة والاستراتيجية .. في مسألة الخروج من الصندوق

|

مقولة "الخروج من الصندوق"، في إطار "وحدة استراتيجية" تتمثل في إنسان أو شركة أو مؤسسة، مقولة معبرة تحمل في مضمونها "تحررا من إعاقة" تسببها قيود لا ضرورة لها، وإطلاقا "لتحديثات" تشمل "أفكارا جديدة مبتكرة"، و"استجابة لمتغيرات" وحقائق متجددة يجب أخذها في الاعتبار، من أجل أداء أفضل، وأثر أكثر تميزا. ولا تبرز الحاجة إلى التطوير والخروج من الصندوق في وحدة استراتيجية مرة واحدة فقط، ثم ينتهي الأمر بعد التنفيذ، بل إن هذه الحاجة تتجدد باستمرار. فعالم اليوم يشهد متغيرات كثيرة ضمن بيئة تنافسية متزايدة في شتى المجالات، فالأفكار التي تبدو جديدة ومبتكرة اليوم، يتجاوزها الزمن غدا، لتبرز الحاجة إلى أفكار أكثر تطورا. ويضاف إلى ذلك أن تجربة الأفكار الجديدة، عند الخروج من الصندوق، لا تكون بالضرورة ناجحة دائما، وبالتالي لا تتمتع بالأثر المنشود، لذا لا يجوز التمسك بها، وإنما يجب التخلي عنها لمصلحة مزيد من الأفكار المبتكرة، في خروج متجدد من الصندوق نحو أداء أفضل.
ولعلنا في الحديث عن "الخروج من الصندوق" نعود إلى أفكار تختص بجانبين رئيسين من التطوير. الجانب الأول هو جانب تطوير "جودة" العمل الذي يتطلب منهجية فاعلة ووسائل تنفيذ مناسبة؛ والجانب الثاني هو جانب تجديد "استراتيجية" العمل الذي يتطلع إلى آفاق محتملة أوسع وتوجهات جديدة. ويحتاج كل من جانبي "الجودة والاستراتيجية" إلى خيال وإبداع، وأفكار مبتكرة تقود إلى تحقيق التطوير المنشود. وتجدر الإشارة إلى أنه ليس هناك انفصال بين هذين الجانبين، فقد يشمل التجديد تطوير كل من "الجودة" و"الاستراتيجية" في آن معا، بما يقود إلى توجهات جديدة للعمل وأداء متميز لمهماته.
تقضي مبادئ تطوير "الجودة" بوجود منهجية تشمل "مجموعة من الخطوات المتكررة" التي تسعى إلى مراقبة العمل القائم وتطويره باستمرار كي يعطي أداء أفضل ونتائج تتمتع بالجودة المنشودة. وتعتمد "منظمة المعايير الدولية ISO" هذا المبدأ في توصيات الجودة التي تقدمها في شتى المجالات مثل: المجال الإداري العام حيث "المواصفة ISO 9001"؛ ومجال إدارة أمن المعلومات، حيث "المواصفة ISO 27001". وهناك منهجيتان شهيرتان من الخطوات المتكررة لتطوير الجودة، إحداهما تنسب إلى "إدوارد ديمينج" أحد أشهر مهندسي الجودة في القرن العشرين؛ والثانية ترتبط بمنهجية الجودة المعروفة "بالأبعاد الإحصائية الستة" التي تسعى إلى تقليص احتمالات الأخطاء إلى حدود دنيا صغيرة للغاية.
تستخدم "منظمة المعايير الدولية ISO" منهجية "ديمينج" التي تتضمن أربع خطوات رئيسة هي: "التخطيط؛ والتنفيذ؛ والمراقبة؛ والتحسين :PDCA". لكن منهجية "الأبعاد الستة" الأحدث منها والمطورة عنها، تتضمن خطوات تشمل "التعريف؛ والقياس؛ والتحليل؛ والتحسين؛ والتحكم DMAIC". المقصود "بالتعريف" هو توصيف الوضع القائم؛ والمطلوب في "القياس" هو تقييم هذا الوضع كميا عبر "مؤشرات" محددة تعبر عنه بدقة؛ أما المطلوب في "التحليل" فهو التعرف على نقاط الضعف والقوة التي يحددها القياس ودراسة مسبباتها؛ وفي "التحسين" يأتي وضع الإجراءات المطلوبة لهذا التحسين؛ ثم يتم في "التحكم" تنفيذ هذه الإجراءات وتحقيق الجودة المنشودة. وتقضي الجودة باستمرار مراقبة الوضع القائم والسعي إلى تطويره نحو الأفضل على أساس هذه الخطوات. ويتضمن مثل هذا التطوير متطلبات الخروج من الصندوق التي طرحناها في مقال سابق، وهي: "إزالة" عوامل قائمة تعيق العمل والترهل في الأداء؛ و"إضافة" عوامل جديدة لتفعيل العمل وتعزيز الأداء؛ و"استبدال" بعض المعطيات القائمة بما هو أفضل منها؛ و"تقديم" أفكار تطويرية مبتكرة؛ وغير ذلك.
ولا تكتفي مبادئ "الجودة" بالتحسين المستمر على أساس ما سبق، بل تقترح العمل بصورة دورية، على مدى فترات زمنية متباعدة نسبيا، ربما كل "خمس سنوات" أو أكثر، على "إعادة هندسة" الوحدة الاستراتيجية، دون تغيير في استراتيجيتها وتطلعاتها. ويشمل ذلك إعادة نظر شاملة في "هيكلية" الوحدة الاستراتيجية المطروحة وفي "الأعمال والإجراءات" التي تنفذها بهدف جعل أدائها أكثر رشاقة في تجاوز العوائق، وتحقيق فاعلية أكبر، تتمتع بكفاءة أعلى. وهكذا نجد أن هناك في مبادئ الجودة "خروجين متجددين من الصندوق"، أحدهما "خروج مستمر محدود ومتكرر" يسعى إلى منع تراكم أي "إعاقة أو ترهل"، وثانيهما "خروج دوري" على فترات متباعدة يعيد النظر في تكوين الوحدة الاستراتيجية وإجراءاتها نحو تميز متجدد قادر على عطاء أفضل ينافس العطاء المماثل لدى الآخرين.
وقد يكون من المناسب للوحدة الاستراتيجية عدم الاكتفاء بتنفيذ متطلبات الجودة، وإنما إجراء تغييرات في الأهداف والتوجهات، وبناء استراتيجية جديدة للعمل ومخرجاته. ولعلنا في هذا الإطار نعود إلى تعريف "الاستراتيجية" لدى "منظمة المعايير الدولية ISO" الذي يقول إنها "خطة مهيكلة التكوين، ومنطقية المضمون تسعى إلى تحقيق أهداف مطلوبة في مجال زمني محدد". ويتضمن إلقاء مزيد من الضوء على هذا التعريف القول إن على الوحدة الاستراتيجية التأكد من أن "رؤيتها ورسالتها وقيمها مقبولة من الجهات المرتبطة بها" لأن ذلك يعزز فرص التعاون بين الجهات ذات العلاقة "بالوحدة الاستراتيجية" لتحقيق أهدافها المنشودة. ويمثل وضع استراتيجية جديدة "خروجا آخر أكبر من الصندوق" نحو آفاق جديدة غير مسبوقة.
وهكذا نجد أن "الخروج الدوري من الصندوق" مطلوب للمحافظة على "جودة الوحدة الاستراتيجية" وتجديد تطورها، وتفعيل قدرتها على المنافسة في تقديم مخرجات أفضل. كما أن هذا الخروج مطلوب أيضا إذا أرادت هذه الوحدة فتح آفاق "استراتيجية" جديدة لعملها المستقبلي. فلا يمكن في عصر المتغيرات الكثيرة، والمعطيات المتجددة لأي وحدة استراتيجية أن تنجح دون استجابة فاعلة لمثل هذه المتغيرات والمعطيات، ودون أفكار جديدة متطورة. ولعلنا على المستوى الشخصي، وعلى مستوى المؤسسات، بمختلف أنواعها وتطلعاتها، نسعى إلى خروج دوري من الصندوق من أجل تعزيز جودة أعمالنا ومخرجاتها، ومن أجل الاستفادة من الفرص المستقبلية الممكنة أمامنا. فالوقوف في المكان في عالم متغير "تقهقر"، ومواكبة المتغيرات فقط "جمود"، والمطلوب خروج من الصندوق، وإبداع في التطور والعطاء و"تقدم" الصفوف نحو مستقبل مشرق بمشيئة الله.

إنشرها