Author

عرض كتاب الدولة الريادية «3»

|
مستشار اقتصادي
بعد استعراض الخلفية التاريخية والفكرية وبعض الافتراضات التي أعاقت الفهم كما يراه الكتاب، لا بد من مثال حي على دور الحكومات - القطاع العام في الأبحاث والتطوير المباشر، وتأثير ذلك المحوري في النمو الاقتصادي. على الرغم من أن الكاتبة تعمل في لندن، إلا أنها أخذت من تجربة أمريكا مثالا للتحليل؛ ربما لحجم ودور القطاع الخاص من ناحية، ودور الخطاب الأمريكي في تمجيد دور القطاع الخاص من ناحية أخرى. وتستدل بمقولة لارك راينهارت حين يقول إنه منذ تأسيس أمريكا وهي تتجاذب بين مدرستين: الأولى مدرسة السياسات النشطة كما يمثلها ألكسندر هاملتون. والأخرى "الحكومة التي تمارس أقل ما يمكن من الإدارة هي الأفضل" كما يمثلها توماس جفرسون. مع الوقت والبراجماتية الأمريكية، نتج أن مدرسة هاملتون مسؤولة عن السياسات الفعلية، بينما مدرسة جفرسون مسؤولة عن الخطاب. على الرغم من الاعتقاد السائد أن أمريكا تمثل قمة دور القطاع الخاص في إيجاد الثروة، إلا أن الحقيقة هي أن القطاع العام هو من يتكفل بالمخاطر القيادية لتشجيع ورعاية وتحفيز الإبداع، وبالتالي القاعدة الأساسية للنمو الاقتصادي. ويقدم الكتاب أربع منصات أمريكية كانت ولا تزال تقود الأبحاث الأساسية والتطويرية حتى الاستثمارات الأولية. الأولى، وكالة المشاريع المتقدمة للدفاع DARPA، والثانية وكالة متخصصة لأبحاث الإبداع في الشركات الصغيرة SPIR، والثالثة نظام أورفان للأدوية ODC ومعاهد الصحة الوطنية، والرابعة مبادرة تقنية النانو الوطنية. ما يجمع هذه التنظيمات الحكومية هو نشاطها المباشر في تشكيل سوق الإبداع والتطوير ليكون هادفا. الأهم أن مجتمع الأعمال الأمريكي يقاد رياديا من خلال الاستثمار في مجالات أعمال جديدة ذات مخاطر عالية. لم يقتصر دور الحكومة على الأبحاث، بل حتى برأسمال جريء venture capital. في الأبحاث الأساسية "بعيدة المدى" يأتي التمويل على النحو التالي: "الحكومة 57 في المائة، الشركات 18 في المائة، الجامعات 15 في المائة، الجمعيات غير الربحية 11 في المائة" لعام 2008، بينما للأبحاث والتطوير R&D والأقرب للأعمال التجارية، الصورة تمويليا مختلفة للعام نفسه "الحكومة 26 في المائة والشركات 67 في المائة والجامعات 4 في المائة وغير الربحية 3 في المائة". الواضح أن دور القطاع الخاص يزيد حين تقل المخاطر. فنجاح القطاع الخاص يأتي بسبب الدعم وتقليل المخاطر وفتح فضاء جديد. لاحظ أن دور الحكومة يتقلص، لكنه ما زال مهما حتى حين تقل المخاطر وتزيد فرص النجاح التجاري. على الرغم من العلاقة العضوية بين الإبداع والنمو الاقتصادي، إلا أن العلاقة ليست خطية. يذكر الكتاب أن ما يبدو مؤثرا في العلاقة بين الإبداع والنمو الاقتصادي، يأتي من خلال درجة الترابط في البيئة العامة وشبكات الترابط feedback loops التي تغذي بعضها من أفراد إلى جامعات إلى شركات إلى جمعيات غير ربحية إلى سياسة عامة مركزة تختبر الممكن وتوسع وتعمق المعارف في وسط الأعمال والمجتمع عموما. كثيرون خارج أمريكا حتى داخلها يعولون على وادي السيليكون دون تفهم لما سبقه من دور حاسم للمنظمات الحكومية التي ذكرناها أعلاه. على سبيل المثال، عمليا قامت DARPA بدور الوسيط بين مراكز الأبحاث والقطاع الخاص لاختصار الوقت وحشد الجهود، وأشار بعضهم إلى الطرق المسدودة والفرص الممكنة في كثير من التقنيات. وهكذا قامت المنظمات الأخرى كلٌّ في مجاله بتمكين الربط المناسب؛ لجعل بيئة الإبداع صحية وعملية وتكاملية، وفي مرحلة تجعلها ممكنة عمليا للقطاع الخاص من تحويرها تجاريا، والأخذ بها إلى مدارات أعلى. لعل الدرس لنا أن نفكر بطريقة تكاملية وتعاونية، إذ كما تقول الكاتبة أغلب محاولات إنشاء "منظومة إبداع" لا تنجح؛ لأنها لا تأخذ بالناحية التكاملية ودرجة الإصرار والدعم. أخيرا لا بد من معرفة المناسب من السياسات لكل بلد واختلاف هذا في مراحل مختلفة، فالمرونة الذهنية العالية وبعد النظر ضروريان لتقدير المرحلة والخليط المناسب من الاستثمارات والعلاقة بين القطاعين العام والخاص.
إنشرها