Author

الأدلة والمؤشرات .. وقضية التنمية

|

أستاذ هندسة الحاسب في كلية علوم الحاسب والمعلومات بجامعة الملك سعود

تشغل قضية التنمية الاقتصادية بال كثيرين، في شتى المجالات، وعلى مختلف المستويات، وبما يشمل العالم بأسره. وللتنمية نظرة عامة من ناحية، ونظرة خاصة من ناحية ثانية. تقوم النظرة العامة على أساس أن التنمية ترتبط بالعالم بأسره. فإذا كانت هناك دولة تصنع سلعة من السلع للتصدير إلى دول العالم الأخرى، والاستفادة من ذلك في بناء الثروة وتشغيل اليد العاملة، فإن نجاح هذه السلعة يرتبط بمدى نمو الدول المستوردة لهذه السلعة وقدرتها على شرائها. وعلى ذلك فشمول التنمية لمختلف أنحاء العالم أمر إيجابي بسبب تأثيره في السوق، وتفعيل حركة عجلة التنمية إلى الأمام. ولعل الجميل في هذه النظرة العامة أنها ترى أن "نجاح التنمية في أي دولة يعزز نجاح التنمية في الدول الأخرى"، لأن السلع التي ينتجها الجميع تحتاج إلى أسواق الجميع، وما تتمتع به من قوة في شراء هذه السلع.
أما النظرة الخاصة في قضية التنمية، فترتبط بالمنافسة بين المؤسسات في قدرة منتجاتها على الاستحواذ على السوق أو نسبة منها. ولهذه المنافسة جانب داخلي في إطار المنافسة بين المؤسسات المحلية والخارجية على السوق المحلية، وجانب خارجي في إطار المنافسة بين هذه المؤسسات على السوق الدولية. وهذه النظرة الخاصة أكثر عمقا من النظرة العامة. وتأتي تنمية دولة من الدول، على أساس هذه النظرة، كمحصلة لما تفرزه المنافسة من نجاح أو إخفاق في الإنتاج والتسويق والتنمية. وهناك عوامل متعددة في هذا المجال بينها مدى "الابتكار والجودة" في المنتجات والخدمات التي تقدمها المؤسسات المختلفة.
وفي دراسة "قضية التنمية"، هناك عوامل كثيرة ينبغي أخذها في الحسبان. ويمكن تقسيم هذه العوامل إلى قسمين رئيسين. قسم يعنى بتمكين التنمية مثل التعليم، والبحث العلمي، والبنية التحتية، والبنية التنظيمية، والتجارة والخدمات الصحية، والإمكانات المادية، والاستثمار، وغير ذلك؛ ثم قسم يعنى بمخرجات التنمية ويشمل المعطيات التي تقدمها التنمية من سلع وخدمات مختلفة، سواء تقليدية مألوفة أو مبتكرة ومتجددة. وتقوم المنظمات الدولية المتخصصة، التابعة للأمم المتحدة UN، برصد بيانات دول العالم المختلفة لمؤشرات ترتبط بعوامل التنمية، كل تبعا لاختصاصها، ويكون مصدر هذه البيانات عادة الدول صاحبة العلاقة، أو قد يكون تقديرات ودراسات تقوم هذه المنظمات بها. ومن أبرز هذه المنظمات: برنامج الأمم المتحدة الإنمائي UNDP، والبنك الدولي World-Bank، ومنظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم: اليونسكو UNESCO، ومنظمة العمل الدولية ILO، ومنظمة الصحة الدولية WHO ومنظمة التجارة الدولية WTO وغيرها.
وتقوم منظمات دولية أخرى مهتمة بالتنمية، وغير تابعة للأمم المتحدة، باستخدام بيانات مؤشرات منظمات الأمم المتحدة، والإضافة إليها، وهيكلتها في أدلة تتكون من مجموعات من المؤشرات، بهدف توسيع دائرة الرؤية إلى التنمية، وتعزيز الاستجابة لمتطلبات التنمية في البلدان المختلفة. ومن أبرز هذه المنظمات المنتدى الاقتصادي الدولي WEF الذي أضاف "مؤشرات تنمية جديدة" تستند إلى آراء أصحاب العلاقة عبر دراسات مسحية، كما بنى أدلة من مؤشرات تنمية مختلفة، يعبر كل منها عن جانب من جوانب التنمية في البلدان المختلفة؛ وهو يصدر سنويا بيانات دول العالم المرتبطة بمؤشرات الأدلة، ويصنفها تبعا لذلك. ومن أبرز الأدلة التي يصدرها المنتدى "دليل التنافسية العالمي GCI" الذي يتضمن أكثر من مائة مؤشر؛ و"دليل الثروة البشرية HCI"، الذي يشمل أكثر من 60 مؤشرا؛ و"دليل الجاهزية الشبكية NRI" الذي يحتوي على أكثر من 50 مؤشرا.
وهناك دليلان آخران شهيران يرتبطان بالتنمية، يصدران عن مؤسسة دولية ثانية هي كليات إنسياد للإدارة INSEAD، بالتعاون مؤسسات أكاديمية وغير أكاديمية أخرى. الدليل الأول هو دليل الابتكار العالمي GII، والثاني هو دليل الموهبة التنافسية العالمي GTCI. يعبر الأول عن الأطراف المتعددة المكونة "لمنظومة الابتكار" في الدول المختلفة، ويشمل نحو 80 مؤشرا، ويطرح الثاني الجوانب المختلفة للموهبة والتنافسية في العالم، عبر أكثر من 60 مؤشرا. وكما هو الحال في الأدلة سابقة الذكر، تصنف الدول سنويا تبعا لبيانات المؤشرات، وحصيلتها الكلية المعطاة في الأدلة.
ولعله من المناسب هنا ذكر الأدلة التي تهتم بتقييم الجامعات وتصنيفها عبر مؤشرات عديدة، فالجامعات وما تقوم به من نشاطات، تدخل في إطار "تمكين التنمية" وتفعيل مسيرتها، وتزويدها بثروة بشرية متميزة معرفيا، ناهيك عن معطيات الإبداع والابتكار التي تقدمها. ومن المؤسسات الدولية المهمة المعروفة في هذا المجال: مؤسسة التصنيف الأكاديمي لجامعات العالم ARWU التي تعرف بمؤسسة "شانغهاي" نسبة إلى موقعها في الصين؛ ومؤسسة تايمز للتعليم العالي THE، ومؤسسة كيو إس QS، وغيرها.
بعد ما تقدم يبرز تساؤل مهم بشأن الاستفادة من الأدلة والمؤشرات المطروحة، خصوصا وأنها لا تقدم قيمة مقاسة لكل مؤشر في الدولة المنظورة فقط، بل تعطي تصنيفا لموقعها التنافسي بين دول العالم أيضا. ففي المؤشرات ذات المجالات الحيوية المهمة قد نجد تحسنا في قيمة المؤشر، دون أن نجد تحسنا في التصنيف؛ والسبب هو تنافس الدول في هذه المجالات. وفي مؤشرات المجالات التقليدية الأقل أهمية قد نجد تراجعا في قيمة المؤشر، دون أن نجد تراجعا في التصنيف، والسبب بالطبع هو محدودية أو ربما غياب المنافسة في هذه المجالات. وعلى ذلك، فليس من المناسب النظر فقط إلى حصيلة أي من أدلة التنمية، من حيث القيمة والتصنيف، وبالتالي الحكم من خلال ذلك على الوضع العام للدولة المنظورة، بل لا بد من التدقيق في تفاصيل المجالات، والتركيز على المجالات المهمة في التعرف على حالة التنمية من أجل السعي نحو في تفعيلها. لا شك أن الأدلة والمؤشرات الدولية، وتوافر البيانات بشأنها، وتصنيف الدول على أساسها، عبر سنوات، خصوصا في المجالات الحيوية المهمة، أمر مفيد للغاية من أجل التعرف على مكامن القوة ومواطن الضعف فيها، ليس فقط بشأن الحالة الراهنة لهذه المجالات، بل بشأن مسيرة تطورها أيضا. ويفيد هذا التعرف في العودة إلى دراسة الأسباب الإيجابية والسلبية التي أفرزت الحالة الراهنة من جهة؛ كما يفيد أيضا في التخطيط ورسم ملامح مسيرة التطوير في المستقبل.

إنشرها