Author

رعاية الموهوبين .. استثمار رابح

|

هناك آراء متعددة بشأن مستوى "الذكاء" والتميز الذي "يهبه" الله تعالى لبني البشر. أحد هذه الآراء يحمل معايير محددة يطبقها على جميع الناس، ويتمثل في نظرية "حصيلة الذكاء IQ". ورأي ثان يرى أن مستوى الذكاء الموهوب لأي فرد يختلف تبعا للموضوع المطروح، أي أن هناك تعددية في الذكاء، حيث يتجلى ذكاء الإنسان في موضوع أو أكثر، ويتقلص في موضوعات أخرى، وتعبر نظرية "تعدد الذكاء" Multiple Intelligence عن ذلك. ثم هناك رأي ثالث يرى أن لكل إنسان مجالا يتميز بإمكانات خاصة، يجب اكتشافها كي يكون عطاؤه في الحياة أفضل وسعادته أكبر، وهذا هو طرح نظرية "العنصر" The Element. وإضافة إلى هذه النظريات الثلاث، هناك من يؤكد على ضرورة تعزيز الذكاء بتفعيل "التفكير" Thinking، والسعي إلى بناء "العقلية المنفتحة" Open Mindset.
ما سبق، مقدمة تعطي - باختصار - الأسس المرتبطة "بالموهبة"، وقد خصصنا لها المقال السابق لمن يرغب في الاستزادة. ويأتي طرح موضوع رعاية الموهوبين مستندا إلى حقيقة أن رعاية "تميز إمكانات الإنسان"، في أي موضوع من الموضوعات، تعزز هذه الإمكانات وتنميها، وتفعل قدرته على العطاء فيها. أي أن هذه "الرعاية" هي عمليا "استثمار" اجتماعي - اقتصادي. فعطاء المتميز عبر الرعاية يزداد ويزدهر ليعطي أثرا اجتماعيا من جهة، واقتصاديا من جهة أخرى. عطاء المتميز يحمل "قيمة اجتماعية" تتمثل في القدوة المتميزة التي يقدمها للآخرين، فتشجعهم على إطلاق ما يتمتعون به من تميز، وتقديم المزيد. ويحمل هذا العطاء أيضا "قيمة اقتصادية" عبر أفكار جديدة يقدمها المتميزون في المجالات المختلفة، يمكن أن تقود إلى منتجات وخدمات تؤدي إلى توليد الثروة وتشغيل اليد العاملة وتفعيل التنمية ودعم استدامتها.
تهتم دول العالم برعاية الموهوبين وتعزيز إمكاناتهم وتحفيزهم على العطاء. وتبدأ في سن مبكرة، ثم تواكب سنين النشأة، وصولا إلى سن الشباب، وأحيانا بعد ذلك في الحياة المهنية. وهناك مؤسسات حول العالم تختص "برعاية الموهوبين". وسنطرح هنا مثالين لهذه المؤسسات، على المستوى الدولي، أحدهما من أوروبا والآخر من أمريكا، تمهيدا للتوجه بعد ذلك نحو إلقاء الضوء على "مؤسسة الملك عبدالعزيز ورجاله للموهبة والإبداع" التي تعرف "بمؤسسة موهبة"، وما تقوم به في المملكة من رعاية للموهوبين، وتحفيز لإمكاناتهم، وتفعيل عطائهم.
هناك على مستوى الاتحاد الأوروبي مؤسسة لرعاية الموهوبين تعرف باسم "المجلس الأوروبي للإمكانات المتميزة ECHA" الذي بدأ عام 1988، أي قبل ثلاثة عقود. ويغطي عمل المجلس مختلف الدول الأوروبية، حيث يقوم بتنسيق نشاطات رعاية الموهوبين فيما بينها، بما في ذلك إقامة نشاطات مشتركة. ويهتم المجلس بالبحث العلمي في مجالات رعاية الموهوبين، ويعقد المؤتمرات التي تعزز الشراكة والخبرات في هذه المجالات. ولا تقتصر هذه المؤتمرات على الحضور الأوروبي والخبرة الأوروبية فقط، بل تشمل مختلف أنحاء العالم. وقد بلغ عدد المؤتمرات التي عقدها المجلس عبر عقود عمره الثلاثة "16 مؤتمرا"، استضافتها مدن أوروبية مختلفة. وقد عقد المؤتمر الأخير في آب (أغسطس)، 2018، في مدينة "دبلن" عاصمة أيرلندا؛ وقد شاركت "مؤسسة موهبة" فيه، للاستفادة من خبرات الآخرين، وعرض خبراتها السابقة أمام العالم.
على المستوى الأمريكي، وبالذات الولايات المتحدة، هناك "الاتحاد القومي للناشئة الموهوبين NAGC". ويتعاون هذا الاتحاد مع "مجلس مديري برامج الموهوبين في الولايات CSDPG"، ويقومان معا بإصدار تقرير دوري حول "حالة تعليم الموهوبين في الولايات". ويشمل التقرير السياسات التي تتبعها الولايات المختلفة في تعليم الموهوبين ورعايتهم؛ كما يتضمن بيانات حول نتائج تنفيذ هذه السياسات. وتهتم سياسات الولايات بالموضوعات الحيوية التي يجري اختيار الموهوبين على أساسها. وهناك بعض الاختلافات بين الولايات في تحديد هذه الموضوعات. لكن هناك أيضا موضوعات مشتركة تحتل أهمية خاصة وتشمل: الموهبة الذهنية؛ والموهبة الأكاديمية في الموضوعات الدراسية المختلفة؛ وموهبة الإبداع والتجديد؛ وموهبة الفنون المرئية؛ والموهبة في القيادة؛ وغير ذلك.
ونأتي إلى "مؤسسة موهبة" التي تأسست عام 1999. وسننظر إليها فيما يلي "كمنظومة منفتحة" تشمل "عناصرها" التي تعمل داخل إطارها، وعناصر أخرى "خارجية" تتعاون معها، ثم "نشاطات" مختلفة بين هذه العناصر "تؤثر في المؤسسة وتتأثر بها"؛ كل ذلك ضمن بيئة عمل تحمل "قيما" يجب الالتزام بها.
تعمل "عناصر موهبة" مع عناصر خارجية "محلية ودولية" تهتم بشؤون "الموهبة والإبداع" من أجل أداء دورها في رعاية الموهوبين بالشكل المأمول. وتشمل العناصر الخارجية هذه: "الأسر والمدارس" أي المصدر الذي يقدم الناشئة الموهوبين؛ و"الجامعات والمراكز البحثية ومؤسسات القطاعين العام والخاص المهتمة"؛ إضافة إلى مؤسسات أخرى متخصصة مثل "المركز الوطني للتقييم".
تقوم "موهبة" بنشاطات عديدة "لرعاية الموهوبين". وتتضمن هذه النشاطات: "التعرف على الموهوبين من أجل العمل على رعايتهم، وتوفير التوعية اللازمة لهم بشأن الموهبة والإبداع، وتقديم المشورة والتوجيه بشأن مستقبلهم". وتشمل هذه النشاطات أيضا "تقديم دروس خاصة للموهوبين في المدارس؛ وإقامة دورات لإثراء إمكاناتهم وتعزيزها عبر برامج صيفية محلية ودولية، وعبر الإنترنت أيضا". كما تتضمن "تفعيل روح المنافسة فيهم عبر المشاركة في معارض ومسابقات محلية ودولية"؛ إضافة إلى مساعدتهم على تطوير أفكار جديدة، وتسجيل براءات الاختراع". ثم هناك نشاطات تختص "بإجراء البحوث والدراسات حول الموهوبين، ونشر الكتب المفيدة في هذا المجال". و"لمؤسسة موهبة" قيما تحرص على الالتزام بها في جميع النشاطات. وتشمل هذه القيم: "الالتزام بالمتطلبات؛ والتميز في العمل؛ والإبداع في العطاء؛ والتعاون؛ والعمل بروح الفريق".
حققت "مؤسسة موهبة" في عملها إنجازات كثيرة، ويستطيع من يريد التعرف على هذه الإنجازات بالأرقام أن يزور موقعها على الإنترنت www.mawhiba.org.sa. ولعله من المناسب، في الختام، القول "إن مؤسسة موهبة التي تستثمر في الإنسان المتميز القادر على العطاء المتميز الذي تحتاج إليه التنمية، تستحق اهتماما وتعاونا من جميع مؤسسات المجتمع وأبنائه. ففي مثل هذا الدعم توسيع لنشاطاتها، وتفعيل لعطائها في المستقبل. وعلينا أن نتذكر دائما أن "رعاية الموهوبين استثمار رابح" يجب أن نسعى، بل أن نتسابق، إليه.

إنشرها