ثقافة وفنون

الدكتور عبد الله مناع لـ الأقتصادية: فرحنا بإنشاء أندية أدبية.. لكنها تجمّدت في بيروقراطية أدبية نادرة!

الدكتور عبد الله مناع لـ الأقتصادية: فرحنا بإنشاء أندية أدبية.. لكنها تجمّدت في بيروقراطية أدبية نادرة!

حوار: عبد الله عبد الغني من جدة لك مقولة: ''أنا لست من أهل القمة، لكني من أهل التعب، أتعبت نفسي، وأتعبت من حولي'' فما وراء هذه الكلمات ؟ أنا أعتقد أن هذه المقولة حقيقية واقعية جدا، فأنا لم أقدم بعد ما يجعلني من أهل القمة وأتمنى أن أستطيع ذلك في بقية الزمن، رغم أنني بذلت جهدا كبيرا مضنيا خلال السنين الطويلة في عملي في الصحافة، إضافة إلى أعمالي الأدبية التي قد أفتخر ببعضها . وأذكر مقولة جميلة لصديق في قصتي مع التعب: ''يؤلمنا حين يصمت، ويؤلم نفسه حين يتحدث'' وأعتقد أنها عبارة صحيحة إلى حد كبير، إذ إن مشكلتي مع نفسي أنني لست مستعدا لتقديم تنازلات فمساحة التنازلات ضيقة دائما ومعدومة أحيانا. أنا من جيل الستينيات وأوائل السبعينيات وجيلنا كان يملك إمكانيات أفضل من الجيل السابق، لكن ظروفنا كانت أقسى، وضمن هذه الظروف والإمكانيات المعقولة التي يمكن أن تصنع كُتابا كبارا جدا كانت الظروف السياسية تحول دون ذلك، وأقول دائما إن مشكلة كتاب بلادنا بأنهم كانوا يسبحون في الجداول الصغيرة ولم يبحروا في البحار الكبرى، سواء في الماضي أو الحاضر، جيلنا كان من الممكن أن يصنع شيئا لكن الظروف من حوله لم تمكنه من ذلك. ولربما الذي بيني وبين تعبي ليس له لفظ يحدده أو يوضحه، فأنا لم أشعر أنني كتبت حقا إلا عندما أشعر بالتعب، والكاتب الحقيقي يا عزيزي هو في معاناة دائمة مع نفسه، و رقيبه الذاتي والظروف مجتمعة من حوله. قلت أيضاً: ''السعادة في الصحافة آنية وزئبقية، والصحافي يطارد وهما ومجدا لا يبلغه لأنه سريع العطب لا يبقى لأكثر من دقائق في عقل وقلب القارئ'' هل ما زلت على رأيك؟ من حيث المبدأ على الصحافي أن يصنع مجدا كل صباح من خلال عاموده أو مقاله، لكن مشكلة الصحافة المحلية أنها أحيانا ما تحاط بأسلاك شائكة فلا يستطيع الكاتب الصحافي أن يكتب ما يريد ليصنع مجده الذي يتمناه، وتجربتي في مجلة ''إقرأ'' صنعت من خلالها صحافة نضجت بعد سنة أو سنتين وكنت راضيا عنها، ولكنني لم أتمكن من الاستمرار ولم تستمر. أزمة الصحافي كأزمة المثقف، الأزمة أن الاثنين يعانيان من وجود خطوط حمراء، في صحافتنا كما في ثقافتنا، إضافة إلى أننا لا نجد الأسماء الكبيرة مثل التابعي أو محمد حسين هيكل وغيرهما في الأسرة الصحافية، رغم ظهور أسماء كبيرة لكنها لسيت بذاك البعد الذي نتمناه والتحرك في المساحة المتاحة لا تجعلك على قدم المساواة مع الآخرين. هناك صحافيون فقط وهناك كتاب فقط وهناك الذين يجمعون الكتابة والصحافة، وهم الأفضل في العالم لأنهم يجمعون بين مهنية الصحافي وقدرة الكاتب المفكر الذي يمرر أفكاره من خلال كلماته ومن خلال كتاباته، وهم الأفضل وإن كانوا ليسوا كثيرا. كيف تقرأ المشهد الثقافي السعودي؟ المشهد السعودي مشهد عريض، فلدينا وزير الثقافة هو من ترابها. فهو رجل مثقف وكاتب متميز ابن هذه البلاد وابن ثقافتها، لذا فهو يشارك المثقفين همومهم أو أحلامهم، لدينا حركات الترجمة ولكنها وقورة وخجولة، و جمعية للثقافة تعمل من سنين طويلة قامت بمحاولات مسرحية لإيجاد حركة مسرحية وكادت أن توفق ولكنها انطوت مع الأيام ، كما توجد لدينا أندية أدبية ولكنها بكل أسف بعد أن تحقق الحلم بأن تكون هناك أندية أدبية، لكنهم تحولوا الى أناس جامدين بعد أن تفشت فيهم '' بيروقراطية'' أدبية نادرة وأصبح الموسم الثقافي هو مجموعة المحاضرات أو الأمسيات الشعرية والمطبوعات ثلاثة إلى أربعة كتب تصدرها الأندية فقط . '' النادي الأدبي'' ناد متخصص، أما إذا قلنا '' ناد ثقافي'' فالثقافة ليست محاضرة وليست أمسية شعرية أو حتى قراءة نقدية، هذه كلها جزء من الثقافة، الثقافة هي مساحة الفنون، هي المسرح والتشكيل والنحت والفنون بشكل عام وهي أهازيج الشعب وغناؤه وأفراحه، مشكلتنا أننا لا نأخذ إلا الجانب الأول، محاضرة فأمسية فمحاضرة فأمسية، والنتيجة سئم الناس. وتلاحظ أن الحضور في المحاضرات قليل جدا، وأعتقد أن التحول في بعض الأندية الثقافية نتيجة استقالة مجلس إدارته صنع حرجا وجدلا ولكنه سيفتح الأبواب لتغيير الأسماء ودخول أسماء جديدة وأفكار تثري العمل الثقافي وتجدد آفاقه. لماذا تقلص دور النقد الجاد مع أن المجاملة في الطرح لا تخدم احداً ؟ النقد الجاد غاب مع غياب الأعمال الجادة. الأعمال الجادة في هذا الوطن الجميل والأعمال التي تستحق النقد قليلة، واعتقد أن أعمال تركي الحمد في ثلاثية ''الأزقة المهجورة'' تستحق النقد والدراسات المطولة كذلك روايات غازي القصيبي '' شقة الحرية'' جميلة تستحق الدراسة وروايات عبده خال تستحق. لكن معظم هذه الروايات لم تصدر في الداخل صدرت في الخارج فتهيب النقاد من التعرض لها أو نقدها وكان ذلك أمرا عجيبا حقا . ويبدو لي أن كثيرا ممن اتجهوا إلى النقد، كان المحرك الأساسي أنهم فقدوا القدرة على الإبداع. الغذامي والسريحي والنعمي وأمثالهم استثناء فهم نقاد ومبدعون في مدرسة د. علي الراعي وغالي شكري وأمثالهما، ولتغفر لي بقيتهم قولي، فالساحة والأضواء مسلطة على المبدع، و هم وجدوا بعض هؤلاء أنفسهم خارج دائرة الضوء، فأرادوا أن يصنعوا مساحة ويجلبوا لها الأضواء التي يبحثون عنها، فأسسوا دولة النقد: أسلحة وألسنة وضوضاء وجلسات واستماع، ولكن في النهاية مهما قال الناقد يبقى ناقدا ومهما قال الأديب يبقى مبدعا. الترميز في الكتابة يضفي هيبة على النص ويغلفه بالأسئلة، لكن القارئ بطبعه ملول، ولا وقت لدية لفك ألغاز الترميز، ما رأيك؟ اتفق معك نصف اتفاق واختلف معك نصف اختلاف، فبعض الترميز يعطي روحا للنص، ويحث القارئ على أن يقرأ ما بين السطور ليفهم الرموز التي أشار إليها الكاتب، لأن اللغة التقريرية والوعظية والنغمة المنبرية تفقد الكتابة متعتها جمالها. لكن إذا ارتفعت مساحة الترميز إلى النصف أو أكثر كما هي الحال في بعض الكتابات الشابة فإن النص يصبح مغلقا غير مفهوم، واعتقد أن الترميز مطلوب لكن لحد ما.، الكاتب جان بول سارترن أحد أبرز كتاب العصر بلا جدال وعلامة من علامات القرن العشرين يقول ''إن الوضوح الفكري أكثر مما ينبغي يعادل العمى''، ولكنني لا أشاركه الرأي بشكل مطلق. الغموض أصبح جزءا من الاستعراضية والبعض يفتقدون الموهبة فيلجأون أحيانا إلى أعلى درجات الترميز حتى يحيطوا النص بشيء من العظمة وحتى يقال عنهم إنهم أصحاب رؤية وفكر عال لم يستطع أن يفهمه القارئ، أعتقد أن من يقول بذلك هو أفشل الكتاب على وجه الأرض فالأساس أن تصل للناس حتى يفهموك، فالكاتب لم يكتب إلا ليعبر عن نفسه وعنهم. الترميز أن يحمل النص شيئا من الرموز وشيئا مما لم يبح به الكاتب صراحة ولكن القارئ يستطيع أن يستنشق رائحته بالكلمات ويتذوق طعمه من الكلمات، الكتابة الحقيقية لا يضعها لكاتب بقلمه فقط بل بعقله ودمائه وعرقه، وأذكر مقولة للكاتب عبد الوهاب آشي ''البعض يفكر فيما يكتب ولا يفكر كيف يكتب''. يرى البعض أن الأدب النسائي في المملكة لم يكتمل النضج بعد، ما رأيك؟ أعتقد أن النساء في المملكة عانين معاناة طويلة فلا نتوقع منهن أن يطوين كل هذه المعاناة في غمضة عين ثم يأتيننا وهن مبدعات، مثل نازك الملائكة أو فدوى طوقان أو فرانسواز ساجان مثلا. ورغم ذلك هناك محاولات بها جرأة و أمامها ردة فعل محافظة، ومؤشرات لتولد كاتبات عظيمات، وكاتبات متوازنات مثل الدكتورة فاتنة شاكر والدكتورة ثريا العريض، الدكتورة فوزية أبو خالد، هناك جريان سوف يفضي إلى كاتبات وأدبيات حقيقيات وعددهن الحالي لا بأس به. وأرجو ألا تنسى أن مجتمعنا نصفان: نصف مستعد أن يقبل المرأة وان يمنحها فرصتها الطبيعية ولا يجد في ذلك غضاضة بل إنصاف متأخر، ونصف لا يجد للمرأة مكانا إلا البيت، إلا أن السنوات العشر الأخيرة حدث فيها انفراج كبير. ألا تعتقد أن الأدباء والمفكرين بات دورهم مقتصرا على طرح المشاكل التي نعاني منها، دون المبادرة بطرح حلول معقولة لها ؟ المأساة أن كثيرا من كتاب هذه الأيام لا يطرحون مشاكل المجتمع المتعددة ولا يقدمون حلولا، بل يقومون بالأدوار التبريرية. والوطن العربي يعاني من مشاكل لا حد لها، لكن مؤسسة التبرير الكبري جاهزة للعمل، وهي حالة بدأت بالعقلانية، من قضايا الصراع الكبرى مثل القضية الفلسطينية ثم انتهت إلى التبريرية البغيظة، فأي شيء يحدث أو يجري جاهزون بتبريره، ألاحظ أن بعض الكتاب الصادقين مع أنفسهم لم يعودوا يجدون الفرصة لأن يقولوا ما يريدون، فيذهبو إلى قضايا غير ذات أهمية، ولكن الذين يطرحون المشاكل دون تصور لهذه الحلول أعتقد أنهم يفعلون لأن طرح الحلول قد يكلفهم ثمنا وهم غير راغبين في دفع تكلفة الحلول. من وجهة نظرك الخاصة، أين تتجلى النقاط العمياء في مجتمعنا ؟ في صمت الأمة ونفاقها من جانب، والفقر وغياب التنمية من جانب آخر محليا. أما عربيا، فالأمة لم تعد تلك الأمة التي عرفناها، غابت أو غيبت عن دورها حتى أصبحنا عاجزين وننتظر ما يقدم إلينا وعلينا أن نقبل به، وهناك صف من آلاف المبررين له على أساس انه الأفضل والأعظم وليس غيره، وإذا لم تركبوا سيفوتكم القطار مثل حديثهم عن قطار العولمة، أوجزت حيث يجب الإيجاز وعلى القارئ أن يفهم. هل يحتاج القارئ إلى مغريات (تنازلات) من قبل الكاتب، ليقبل الناس على الثقافة؟ أم أن سبب عزوفهم يعود لفقدان الثقة بين القارئ والكاتب؟ المسألة ليست مسألة مستوى الكاتب ومستوى المتلقي، وهل ينزل الكاتب إلى مستوى المتلقي، هذه عملية استعلائية على القارئ وأعتقد أن بعض القراء أعظم بكثير من عشرات الكُتاب وهذه الظاهرة لم يعد لها مكان. على الكاتب أن يكون صادقا مع نفسه، فالقارئ يبحث عن كاتب صادق يعبر عنه ويكره الكاتب الكاذب الملتوي أو الذي يستخف بقدراته العقلية، والمسألة ليست تنازلات بل قدر الصدق، القارئ أشد حساسية من كل ما نتصور، ولذلك إذا قال الناس إن فلانا كاتب عظيم فهو حقا عظيم فإن ألسنة الناس هي ألسنة الحق الحقيقة، وأظنك تتفق معي في أن الشاعر العظيم حقا هو الذي يكتب تلك القصيدة التي كنا نريد ان نكتبها ولم نستطع. يشتكي القراء من أن بعض الكتاب والمفكرين يزينون الحياة على أنها سمن وعسل وبأن مشاكلهم سوف تحل بمجرد قراءة ما يكتبون؟ هذا يذكرني بمقال الأستاذ الصحافي الكبير علي أمين في مقاله اليومي ''فكرة''. في هذا العمود الصغير والجميل يبني ناطحات سحاب على الرمال والبقايا، تقرأ العمود فترتاح على أن كل شيء على ما يرام وأن الدنيا زهور وربيع أو سمن وعسل كما تقول وهذا وهم. المفترض في الكاتب إقلاق الناس على الحقيقة. إن حجم التخلف الذي يعاني منه الوطن العربي يحتاج إلى إقلاق المواطن العربي حتى يفيق وحتى يعلم أين هو وماذا عليه أن يفعل، وإلا فأنت بذلك تبيعهم وهما وسرابا.
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من ثقافة وفنون