Author

اللغة العربية والكلمة

|
أستاذ جامعي ـ السويد
لم يأخذ عنوان أي مقال كتبته من الوقت ما أخذه عنوان هذا المقال. وإن سألني القراء الكرام: كم مقالا كتبت؟ فجوابي هو: "الله أعلم". كنت حائرا بين عدة عناوين تجاوزت العشرة، وبعد غربلتها، استقر رأيي على ثلاثة منها: الإنسان والكلمة، الإنسان العربي والكلمة، اللغة العربية والكلمة. وفي النهاية آثرت العنوان الأخير. وقد يقول قائل: لماذا العنوان الأخير؟ من وجهة نظري كأستاذ أشتغل بتحليل الخطاب في أكثر من لغة، السبب بسيط؛ هو أن اللغة العربية ربما هي اللغة الوحيدة في الدنيا التي ينضح فيها إناء الكلمة بما فيه، في نسق وتناغم يجمع الحرف والصوت والخط والروح معا. يشبه إناء الكلمة في اللغة العربية الإناء المملوء بالماء الصافي، تصل درجة نقائه نقاء مرآة ذات أبعاد كثيرة تخترق الظاهر إلى الباطن. الناظر في هذه المرآة لا يرى وجهه من عدة جهات فحسب، بل حتى أحشاءه ونبضات قلبه وسريان الدم في شرايينه. والكلمة هي معجزة العرب، تسحرهم، تقتادهم، تهيمن عليهم، تحركهم، تكتب تاريخهم، تخدعهم، تنير دربهم، أو تجعل الظلام يسدل ستاره على حياتهم. وكان الكلام الموزون المقفى، شعرا أو سجعا، ما يتفاخر به العرب قبل الإسلام. الكلمة كانت تسبق أي حركة، سلما أو حربا، تجارة أو حوارا. والكلمة كانت المفصل والحكم. كم قبيلة هاجرت ديارها وتركت مراعيها أطلالا هربا من وقع كلمة قاسية في حقها جاءت على لسان شاعر أو كاهن. وعندما أتى الإسلام لم يكن بد من دحض معجزة الكلمة في الجاهلية بمعجزة من السماء، أساسها أيضا الكلمة التي وقف أمامها العرب عاجزين عن الإتيان بمثلها، ففاقت كثيرا ما كان لديهم، وأخذت بألبابهم، وقبلوها أفواجا. وقد وقف مفكرون وفلاسفة كبار مدهوشين أمام سحر الكلمة لدى العرب، وأذكر منهم -على سبيل المثال لا الحصر- الفيلسوف الألماني الشهير يوهان جوته، وجوته من كبار شعراء الألمانية أيضا. قراءته للشعر العربي والقرآن الكريم جعلته يقول إن اللغة العربية فريدة بين اللغات في العالم؛ لما تملكه من انسجام "بين الروح والكلمة والخط"، ويضيف أن هذا الانسجام متناسق وكأنه "جسد واحد". ومن هذا المنطلق، ربما نستطيع القول إن الحضارة العربية كانت ولا تزال حضارة "كلمة"، وأن تأثير ووقع "الكلمة" لدى العرب قد يفوق ما لدى الأمم الأخرى. في الغرب مثلا، لا يعير السياسيون اهتماما يذكر في حال استخدام كلمات نابية بحقهم، وفي الأغلب لا يبالون عند شن حملات إعلامية قاسية ضدهم. لو التقيت سويديا واستخدمت كلمة أو كلمات غير لائقة في حقه، حتى دون سابق إنذار، أغلب الظن، لطأطأ رأسه وغادر المكان بهدوء، ظنا منه أنني مهووس، أو قد أصابني مس من الجنون، أو أنا واقع تحت حالة غير مرضية من الناحيتين النفسية أو الجسدية. وقلما تبنى المواقف والسياسات في الغرب مثلا على "الكلمة"، بل على الحوار حول "الكلمة". وقد يبتسم الغربي، سياسيا كان أو غيره، إن عيَّره شخص بأنه "غبي" مثلا أو "جاهل" أو "أحمق". "وهنا بالطبع أستثني الكلمة التي تشي بالكراهية والعنصرية، مثلا". لنقارن ذلك بما يحدث في الشرق الأوسط. الساسة حساسون للكلمة، وقد تؤدي كلمة واحدة إلى اتخاذ مواقف سياسية ذات تبعات كبيرة، وكذلك الناس التي تتأثر بالكلمة فور نطقها، سلبا أو إيجابا. والكلمة لدى العرب ليست فقط ما هو متداول اليوم. للعرب ذاكرة قوية تستقي من الماضي البعيد والتليد كلمات، رغم قدمها، لا يزال لها وقع السيف. والعرب لا يعانون آفة النسيان عند تعلق الأمر بمعنى وروح الكلمة ذات العلاقة بالأحداث والميول والثقافات والقبائل والمناطق وغيرها. ترِد على لسانهم مثل السليقة رغم قدمها، ويتداولونها في كثير من الأحيان دون تمحيص، ويطلقونها مثل السهم الذي حال انطلاقه من الصعوبة بمكان تغيير وجهته. وقد جعل فلاسفة القرن العشرين، وعلى رأسهم حنا أرندت، الكلمة أساس الشرور، التي يقترفها البشر، وأن أي فعل مهما كان يبدأ بكلمة. وتحضرني عبارة للإمام علي بن أبي طالب، يسبق التنظير هذا بنحو 1500 عام، حيث يقول: "مفتاح الشر كلمة". وإن كانت الكلمة في اللغة العربية، حسب قول الفيلسوف جوته، تجمع بين ثناياها الروح والجسد، وهو قول يسنده التاريخ والثقافة، فإن وقعها على المتلقي كبير، وتأثيرها بالغ الشدة. لا أعلم إن كان العاملون في الإعلام العربي مدركين لوقع الكلمة التي يختارونها لتوصيف الأحداث والأشخاص والأفعال، ولاسيما تلك التي غايتها الانتقاص استنادا إلى القبيلة أو المنطقة أو الثقافة أو الميل أو الموقف أو وجهة نظر.
إنشرها