Author

مبشرات تعافي الاقتصاد الوطني

|
عضو جمعية الاقتصاد السعودية

أظهرت مؤشرات الحسابات القومية خلال الربع الأول، نمو الاقتصاد الوطني بنهاية الربع الأول من عام 2018، لأول مرة منذ الربع الرابع لعام 2016 بمعدل نمو حقيقي ربع سنوي 1.2 في المائة، مقارنة بمعدل نموه خلال الربع الأخير من 2017 بنحو - 1.2 في المائة، ومقارنة بمعدل نموه خلال الربع المماثل من العام الماضي بنحو - 0.9 في المائة، يأتي هذا النمو الإيجابي نتيجة النمو المتحقق لنشاط الصناعة لأول مرة منذ نهاية الربع الأخير من عام 2016، الذي تمكن من النمو الربع سنوي للفترة نفسها بمعدل 1.0 في المائة، مقارنة بتراجعه خلال الربع الأخير من 2017 بمعدل سلبي - 3.5 في المائة، ومقارنة بتراجعه خلال الربع المماثل من العام الماضي بمعدل سلبي - 1.6 في المائة.
كما تحقق النمو الربع سنوي الأخير للاقتصاد الوطني، على الرغم من تباطؤ النمو الحقيقي لنشاط الخدمات للفترة نفسها إلى 1.4 في المائة، مقارنة بمستواه الذي حققه خلال الربع الأخير من 2017 بمعدل بلغ 2.0 في المائة، ومقارنة بمعدل نموه خلال الفترة المماثلة من العام الماضي بمعدل 0.9 في المائة. في الوقت ذاته، تمكن أيضا القطاع الخاص من الصعود بمعدل نموه الربع سنوي الحقيقي نهاية الربع الأول من عام 2018 إلى 1.1 في المائة، مقارنة بمعدل نموه الربع سنوي خلال الربع الأخير من 2017 البالغ 0.4 في المائة، ومقارنة بمعدل نموه عن الربع المماثل من العام الماضي البالغ 0.3 في المائة.
يؤكد أداء تلك المؤشرات الاقتصادية وغيرها مما تضمنه التقرير الربع سنوي الصادر عن الهيئة العامة للإحصاء بالأمس، التقدم المتئد لتحسن مؤشرات أداء الاقتصاد الوطني، مع التركيز على أداء القطاع الخاص الذي أظهر ثاني أفضل أداء له منذ الربع الأول من عام 2016 "أفضل أداء تحقق خلال الربع الثالث 2017 بمعدل نمو 1.8 في المائة"، وهو القطاع الذي يعتمد عليه كثيرا في تحقيق النمو للاقتصاد الوطني، إضافة إلى أهميته في مجال إيجاد وتوفير فرص العمل الكريمة أمام المواطنين والمواطنات الباحثين عنها، عدا أهميته أيضا على مستوى النمو والتوسع بما يعزز من إيرادات الدولة في جانب الإيرادات غير النفطية.
كما تؤكد المؤشرات الأخيرة على توافر قدرة أكبر لدى الاقتصاد الوطني على تجاوز كثير من التحديات، سواء تلك الناتجة عن عمليات الإصلاح، أو تلك المترسبة نتيجة قصور عديد من السياسات التنموية السابقة، التي توزعت بين مختلف جوانب التنمية المستدامة، كالتوظيف وتحسين مستوى الدخل، وتقليص فجوات التباين في مستويات الدخل بين طبقات المجتمع، والحد من أشكال احتكار الأراضي والعقارات والأنشطة التجارية والخدمية، إضافة إلى محاربة كل أشكال وأوجه التستر التجاري، وتحسين بيئة الاستثمار المحلية، وتعزيز التنافسية في السوق المحلية، والعمل على معالجة مسلسل عديد من الأزمات التنموية، كأزمة الإسكان، وسرعة تطوير البنى التحتية، والارتقاء بالرعاية الصحية، وتوسيع فوائد التنمية الشاملة والمستدامة، لتشمل أكبر قدر ممكن من مختلف الشرائح السكانية في المدن والمناطق الحضرية على حد سواء، يتحمل مسؤولية قصورها بالكامل الحلقات التنفيذية الوسيطة، سواء الأجهزة الحكومية التنفيذية أو منشآت القطاع الخاص المتعاقد معها، وتفاقم حجم هذا القصور من تلك الأجهزة مع تعاظم حجم الإنفاق الحكومي الضخم، الذي لم يعكس حتى وقت قريب حجم السخاء الكبير الذي حظيت به من قبل الدولة، ولم يترجم إلى منجزات حقيقية على أرض الواقع، تعالج ما تقدم ذكره من آثار تنموية سلبية، بقدر ما أنها زادت بكل أسف من عمق تلك التشوهات الهيكلية، وزادت من الاعتماد والارتخاء على ساعد الإنفاق الحكومي المباشر وغير المباشر "الإعانات، القروض الميسرة من صناديق التنمية".
وعلى أن عمليات الإصلاح الراهنة، لا تقف عند حدود معينة في الأجلين، القصير والمتوسط، ذلك أنها تأتي ضمن تغييرات جذرية واسعة وشاملة لكامل نسيج السياسات الاقتصادية الراهنة "إعادة هيكلة كاملة للاقتصاد الكلي"، بصورة تستهدف إيجاد اقتصاد على مستوى إنتاجية أكفأ وأفضل، وأكثر تنوعا في قاعدته مقارنة بما كان عليه سابقا، والذهاب لأبعد من ذلك ليصبح أكثر تنافسية مبتعدا عن الاعتماد المفرط على الإنفاق الحكومي المباشر وغير المباشر، وتيسير السبل كافة أمام كيانات القطاع الخاص عبر تسهيل بيئة الاستثمار المحلية، وفتح نوافذ المنافسة الكاملة والحد من أشكال الاحتكار، بما يكفل سهولة توجه السيولة والثروات نحو قنوات الاستثمار المتنوعة، التي تخدم احتياجات الاقتصاد الوطني والمجتمع على حد سواء، وتسد أمام الثروات المحلية كل الطرق المؤدية إلى تدفقها نحو المضاربة العشوائية، أو التكدس في أصول غير منتجة، كالأراضي وغيرها من الأصول.
سيترتب نتيجة لكل ذلك كثير من المزايا الاقتصادية والتنموية، يمكن إجمالها في انحسار التشوهات المذكورة باختصار أعلاه، سيقابله انفتاح فرص واسعة النطاق للنمو والاستقرار الاقتصادي محليا.
أخيرا، لا يوجد أي تحول جذري في أي اقتصاد حول العالم دون أن يرافقه بعض الآلام، إلا أنه رغم كل ذلك تأتي أدنى وقعا وسلبية من استمرار حياة التشوهات الهيكلية المتسببة في ضرورة القيام بتلك الإصلاحات والمعالجة، خاصة إذا كانت تلك التشوهات واسعة الانتشار، وآخذة في التفاقم عاما بعد عام كما هو قائم في المشهد التنموي والاقتصادي المحلي. يمتلك الاقتصاد الوطني كثيرا من الإمكانات والموارد الكافية، للتحول نحو الهيكلة اللازمة لتحقيق أهدافه التنموية مهما بلغ سقف طموحاتها.
ختاما، لا نزال نسير في طريق طويل يستهدف التخلص من التشوهات والآفات التي أثقلت كاهل الاقتصاد والمجتمع على حد سواء، والتخلص بدوره مما نتج عنها من تحديات تنموية جسيمة جدا، التي ليست كما قد يظن عديد أنها جاءت نتيجة التحول الاقتصادي الراهن، والتأكيد هنا على أن أية تحولات هيكلية لأي اقتصاد حول العالم، سيصاحبها دون أدنى شك كثير من الآثار العكسية، قصيرة ومتوسطة الأجل، سرعان ما ستبدأ في التحسن تدريجيا بعد تكيف الاقتصاد والمجتمع ومختلف مكوناتهما مع تلك الإصلاحات، وهو ما بدأنا نلمسه جميعا من خلال ما عكسته مؤشرات الأداء الاقتصادي أعلاه. إن ما يجري اليوم من تحولات هيكلية للاقتصاد الوطني، تشبه إلى حد كبير جدا جسدا أحاطت به الشحوم في جميع مناطقه، وأصبح يعاني كثيرا من الوزن الزائد، ثم بدأ في التخلص من تلك الشحوم بممارسة الرياضة، ولا شك أنه سيعاني كثيرا في بداية الأمر، إلا أنه في نهاية الأمر سيجني جسدا رياضيا نشيطا، خاليا من الوزن الزائد. والله ولي التوفيق.

إنشرها