FINANCIAL TIMES

سلع الرفاهية .. طفرة الفانيلا تكشف مكمن الخلل في سلاسل الإمداد

سلع الرفاهية .. طفرة الفانيلا تكشف مكمن الخلل في سلاسل الإمداد

سلع الرفاهية .. طفرة الفانيلا تكشف مكمن الخلل في سلاسل الإمداد

في منطقة سافا الرطبة شمالي مدغشقر، حيث تنمو شجيرات الفانيلا في عريش مظلل من الغابة، يحرس القرويون محصولهم كما لو كان معدنًا ثمينًا. حسنا يفعلون. الطلب القوي على الفانيلا الطبيعية، والمضاربة، والمواسم السيئة، وغسل الأموال، دفعت الأسعار إلى أعلى لتصبح بسعر الفضة.
غالبا ما يستيقظ الزراع ليجدوا أن شجيراتهم قد جردت تماما، وحُمِّلت الفانيلا ليلا من قبل عصابات من اللصوص ينفذون طلبات الشراء للمشترين في العاصمة أنتاناناريفو البعيدة، الذين بدورهم يزودون أسواق أوروبا الغربية والولايات المتحدة وآسيا. تقول منظمات غير حكومية في المنطقة، إن جماعات أمن أهلية نشأت في بعض أجزاء سافا لتطبيق القصاص الفوري على سارقي الفانيلا.
مدغشقر التي تزود العالم بـ 80 في المائة من الفانيلا الطبيعية، واقعة في قبضة طفرة الفانيلا. تقول يوجينيا لوبيز، الخبيرة الزراعية في وكالة التنمية السويسرية "هيلفيتاس" Helvetas "الناس يقولون: أنا لا أهتم بزراعة الغذاء لإطعام نفسي. أريد فقط أن أزرع الفانيلا". تتسرب الفتيات من المدارس للزواج من "بارونات الفانيلا"، كما أن مبيعات أجهزة التلفزيون وغيرها من الكماليات عالية. تقول لوبيز: "يشتري الناس السيارات والدراجات البخارية لدرجة أنهم لن يكونوا حتى قادرين على ملء البنزين عندما ينهار سعر الفانيلا".
على الرغم من أن بعض الزراع كسبوا جيدا من حمى الفانيلا، إلا أن كثيرا منهم لم يكونوا كذلك. تذهب حصة الأسد من الأرباح إلى المشترين والوسطاء والمصدرين الذين يشترون
الفانيلا، ويعالجونها ويبيعونها لمصنعي الشوكولاتة والعطور والآيس كريم والنكهات في العالم. تسبب ارتفاع الأسعار في حدوث تموجات في أماكن بعيدة تصل إلى لندن ونيويورك؛ حيث حذفت بعض محال الآيس كريم الفانيلا من قوائمها.
في حين أن شركات مثل كوكا كولا، أو يونيليفر، مجموعة السلع الاستهلاكية البريطانية الهولندية، أو دانون، شركة الأغذية الفرنسية، مضطرة إلى دفع أسعار مبالغ فيها، إلا أن الزراع يحصلون على ما بين 5 و10 في المائة فقط من قيمة محاصيلهم، وفقا لمراقبين في الصناعة. الأسوأ من ذلك، كما يقولون، يحدث إذا ما انتقل الزراع إلى الفانيلا المربحة وتركوا المحاصيل الغذائية مثل الأرز والمنيهوت، فيمكن أن يجدوا أنفسهم في حالة من اليأس الشديد عندما تنهار سوق الفانيلا، الأمر الذي سيحدث حتماً. عانت الفانيلا من طفرات وحالات إفلاس عنيفة من قبل. قبل خمس سنوات فقط، كان يجري تداولها بسعر 20 دولارا للكيلو جرام الواحد مقابل نحو 515 دولارا الآن، بانخفاض عن ذروة أخيرة بلغت 600 دولار، مقارنة بسعر الفضة البالغ 528 دولارا للكيلو جرام.
يقول باتريك إمام، ممثل صندوق النقد الدولي في مدغشقر: "هل تعرف المرض الهولندي؟"، في إشارة إلى اللعنة التي تجلبها السلع في بعض الأحيان. "حسنا، هذا اسمه مرض الفانيلا".
عدم القدرة على تحويل الثروات الطبيعية إلى مستوى معيشي لائق ليس مبعث قلق فقط لمدغشقر وغيرها من البلدان الفقيرة والمنتجة للسلع الأساسية في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية. على نحو متزايد، هي أيضا مشكلة بالنسبة لمشتري السلع. يهتم المستهلكون بدرجة أكبر بمصدر طعامهم والأثر البيئي والاجتماعي لتفضيلات الشراء لديهم.
حتى إن كانت بلدان مثل مدغشقر - بما تعانيه من سوء تغذية مزمن، ولصوص الفانيلا، وعدم تطويرها - تبدو أنها على مسافة بعيدة، إلا أن المنظمات غير الحكومية تعمل على تكثيف الضغوط على الشركات متعددة الجنسيات لكي تفصح عن منشأ مكوناتها وظروف الأشخاص الذين ينتجونها.
تقول فيكتوريا مارس، وهي من الجيل الرابع من العائلة التي تملك شركة الشوكولاتة "مارس"، والتي تشتري نحو 0.5 في المائة من الفانيلا في العالم، بالدرجة الأولى لصنع العلامات التجارية للشوكولاتة، مثل سنيكرز وتويكس: "أعتقد أن ما سيكتشفه الجميع هو أن سلسلة الإمداد مصابة بالاختلال. علينا تحمل بعض المسؤولية. الفانيلا قطعة صغيرة، ولكن علينا أن نبدأ في مكان ما".
يقول باري باركين، رئيس قسم المشتريات والاستدامة في شركة مارس، إن على الشركات تغيير الطريقة التي تشتري بها السلع. في الواقع، يذهب إلى حد إعلان أن عصر السلع قد ولى.
يقول: "من الناحية التاريخية، كانت السلع الأساسية شيئًا متجانسًا، كان الناس يشترونها دون أن تكون هناك معرفة بين البائع والمشتري، لدرجة أنك لا تعرف من أين أتت". عندما كان يشتري الكاكاو لـ "مارس" قبل 15 عامًا، كانت المواصفات "نكهة من غرب إفريقيا". لم تعرف "مارس" ما إذا كانت الفانيلا تأتي من غانا أو نيجيريا أو الكاميرون أو ساحل العاج - أو أي شيء حول ظروف الإنتاج. "اشتريناها من أرخص مورد في ذلك الأسبوع، في ذلك الشهر".
هذا النوع من العلاقة لن يكون مقبولا بعد الآن، كما يعتقد باركين، الذي يعزو للمنظمات غير الحكومية فضح نقاط الضعف في سلاسل الإمداد التي غالباً ما تنظر إلى سلع الرفاهية على أنها على طرف، وسوء التغذية، وإزالة الغابات، وعمالة الأطفال على الطرف الآخر.
يقول: "هذا القطار يمر بسرعة. شركات السلع الكبيرة – مثل أرجيلز، وآرتشر دانيلز ميدلاندز، وبونج، والشركات البالغة من العمر 200 عام التي أنشئت على فكرة نقل السلع في جميع أنحاء العالم بأكثر الأسعار كفاءة - لا أعتقد أنها تتوقع ذلك"
يعبر إيمانويل فابر، رئيس مجلس الإدارة والرئيس التنفيذي لشركة دانون، وهي مشتر كبير آخر للفانيلا، عن وجهات نظر مماثلة. ويقدر أن "دانون" تصدر مكوناتها إلى ما بين 70 و100 بلد. مثل فيكتوريا مارس، سافر فابر أخيرا إلى مدغشقر للمرة الأولى لمعرفة السبب في أنها مكلفة للغاية وما يمكن فعله لتأمين الإمدادات وتحسين حياة الزراع.
يقول فابر: "على مدى أجيال، الشركات المستهلكة في العالم الغربي كانت تعهد لعلامات تجارية كبيرة بتوريد أغذية لذيذة وبأسعار معقولة. جاء الجيل التالي متعلما ولديه شكوك حول النظام، وشكوك حول تغير المناخ، وشكوك حول عدم المساواة".
وهذا يعني، كما يقول، أن على الشركات متعددة الجنسيات مثل دانون أن تبذل جهوداً صادقة لمعرفة ما يجري في سلاسل الإمدادات الخاصة بها ومعالجة المشكلات عند تحديدها. ويقول: "الغذاء والماء ليس مجرد سلعة استهلاكية. هذا تبسيط أيديولوجي كبير حافظنا عليه 50 عامًا".
واعترف كل من فيكتوريا وفابر بالوصول إلى مدغشقر دون معرفة أي شيء عن كيفية إنتاج الفانيلا أو تحت أي ظروف. حتى رئيسة قسم المشتريات في شركة مارس كانت في الظلام. تقول أماندا ديفيس، نائبة الرئيس للمصادر الاستراتيجية التجارية العالمية: "أستطيع أن أتحدث معك لأسابيع عن الكاكاو، لكن يمكنني أن أتحدث معك لمدة خمس دقائق فقط عن الفانيلا".
تمت زراعة الفانيلا، التي هي نوع من نبات السحلبية، لأول مرة في المكسيك، لكن تم نقلها إلى جزيرتي ريونيون وموريشيوس في المحيط الهندي من قبل المستعمرين الفرنسيين في أوائل القرن التاسع عشر. تأثرت آمال زراعة الفانيلا هناك سلبا بسبب عدم وجود النحل لتلقيحها حتى توصل أحد السكان، إدموند البيوس، إلى كيفية تلقيح الأزهار باليد.
بعد ذلك تم أخذ النباتات إلى مدغشقر. مناخ الجزيرة الواقعة شرق إفريقيا لا يعتبر مثاليًا فحسب، بل هي أيضًا أحد الأماكن القليلة في العالم الفقيرة بما يكفي لجعل عملية التلقيح اليدوي المجهدة تستحق القيام بها.
دومينيك روك، أحد كبار التنفيذيين في شركة فيرمنتش Firmenich، وهي دار سويسرية للروائح والنكهات مملوكة للقطاع الخاص تشتري نحو 10 في المائة من الفانيلا في العالم، يقول إنه عندما ارتفعت الأسعار في أوائل العقد الأول من القرن الحالي، بدأ الزراع الهنود في زراعة الفانيلا. ويضيف: "ثم انهارت الأسعار، وعندما انخفض سعرها إلى أقل من 40 دولارًا، قالت الهند ببساطة: "لا، لسنا مهتمين بإنتاج المزيد بعد الآن". الزراع في مدغشقر لا يمكنهم اتخاذ هذا الموقف؛ لأنهم إذا فعلوا فسيتضورون جوعًا".
تنتج أوغندا وإندونيسيا وبابوا نيو غينيا وسيشيل كميات صغيرة من الفانيلا، تاركة معظم السوق لمدغشقر.
يقول روك إن شبه الاحتكار لمدغشقر والعدد المحدود من المشترين والبائعين الجادين - يقدر عددهم الإجمالي ببضع عشرات - هو أحد أسباب تقلبات الأسعار الجامحة. ثلاثة مواسم حصاد سيئة في السنوات الأربع المنتهية في 2014 قللت بشكل كبير من العرض. عندما نفد مخزون الشركات، اضطر المشترون الملتزمون بالفانيلا الطبيعية إلى دفع أسعار باهظة.
الجريمة عقَّدت المشكلة. مدغشقر لديها تجارة مزدهرة غير مشروعة في خشب الورد إلى الصين وجنوب شرقي آسيا. والذين يبيعونه عالقون بكميات هائلة من "الأرياري"، العملة المحلية. ويشير الخبراء إلى أن الطريقة المفضلة للتخلص منها هي شراء الفانيلا التي يمكن بيعها مقابل الدولار.
يقول روك: "المال القذر هو جانب واحد من المشكلة". وهو يلقي باللوم على تدخل مئات الوسطاء لمجرد كسب المال في أوقات الطفرة. "وبسبب قيمة النبتة، يتدخل اللصوص".
اللصوص الذين يعملون في الليل باستخدام الفوانيس، يقطعون الفانيلا غير الناضجة أو ينقلون النبتة بأكملها. هذه المنتجات تنتج فانيلا أقل بكثير، أو لا تنتج الفانيلا على الإطلاق، وهذا يعني أن المشترين يدفعون أسعارًا قياسية لبعض الفانيلا ذات الجودة المنخفضة منذ سنوات. يقول روك: "هذا هو الوضع العجيب في مدغشقر اليوم. كميات كبيرة من المواد باهظة الثمن بشكل لا يصدق، وذات جودة منخفضة بشكل لا يصدق".
في قرية أندرغازاها، في منطقة تقع جنوب منطقة سافا التقليدية لزراعة الفانيلا، يعمل الزراع مع شركات لترشيد سلسلة الإمداد. يهدف صندوق سبل المعيشة للزراعة الأسرية، الذي أنشأته دانون، ومارس، وفيرمينتش، وشركة المرافق الفرنسية فيوليا، إلى زيادة الناتج ومساعدة الزراع على علاج ما لديهم من الفانيلا، الأمر الذي يمكن أن يزيد من دخلهم حتى أربعة أضعاف، وفقا لبيرنار جيرو، رئيس صندوق سبل المعيشة. وهو يشجع الزراع كذلك على زراعة المحاصيل الغذائية.
يقول سيلفانو تسيالازو، وهو مدير مشروع في أندرغازاها: "أحد الأهداف هو إخراج الوسطاء. الهدف هو تقصير المسافة بين المنتج والعملاء الرئيسين".
لدرء اللصوص، ينظم القرويون دوريات ليلية ويضعون ختما على كل فانيلا فردية لا تزال معلقة على شجيرتها. وتطبق السلطات عقوبات أكثر صرامة. في الماضي، كانت العلاقة بالمشترين من ذوي العلاقات الجيدة تعني أنهم يمكن أن يُطلَق سراحهم في غضون ثلاثة أيام، لكن الآن تبدأ الأحكام بالسجن من ثلاث سنوات. خلال الموسم الماضي وحده تم القبض على عشرة لصوص في القرية، وانخفضت سرقة الفانيلا من 80 في المائة إلى 10 في المائة فقط.
على الرغم من خضرة مدغشقر، إلا أن الجوع ليس بعيدًا أبدا عن كثير من سكان الجزيرة البالغ عددهم 25 مليون نسمة. فنحو نصف الأطفال يعانون توقف النمو، ما يعني أن من المرجح أن ينشأوا محرومين جسديًا أو عقليًا. سنوات من عدم الاستقرار السياسي وغياب الدولة من الناحية العملية (أو الطرق) خارج العاصمة يعني أنه لا شيء يذكر من التنمية أو الخدمات أو الدعم يصل إلى معظم الناس. وفقاً لبيانات البنك الدولي، مدغشقر التي هي رابع أكبر جزيرة في العالم، أكثر فقراً من هايتي، يبلغ دخل الفرد السنوي فيها 400 دولار فقط بأسعار السوق.
ليديا سوا، وهي أم لخمسة أطفال تبلغ من العمر 46 عاماً، تزرع الفانيلا رغم اعتراض زوجها، وهو صياد سمك. الآن هما يحصدان الفوائد. وتقول بنوع من الخيلاء: "ليس لديه أي شيء ليقوله عن ذلك. الفانيلا تُكسبنا المال، لذا فهو سعيد".
في قطعة الأرض الصغيرة إلى جوار منزلها الخشبي – يوجد فيه لوح للطاقة الشمسية وصندوق موسيقي - تبلغ قيمة شجيرات الفانيلا المزروعة لديها بعناية نحو ثمانية آلاف دولار، وهي ثروة صغيرة في مدغشقر. يقول أحد المتفرجين: "هذه أوراق الدولار تتدلى على تلك الأشجار". وفرت سوا ما يكفي من المال لإرسال أكبر ولديها سناً إلى الجامعة في أنتاناناريفو، على مسافة 12 ساعة براً في موسم الجفاف.
في ساهابيفافا، حيث يعمل صندوق سبل المعيشة أيضاً وحيث تعيش سوا، تتحدث صاحبة مشروع الفانيلا مع زوار من بعض أكبر شركات الأغذية في العالم. ربما لا تدرك سوا أن المرأة في منتصف العمر التي تتحدث إليها بلهجة واثقة للغاية ورثت حصة تبلغ 8 في المائة في "مارس"، وهي شركة تبلغ مبيعاتها السنوية 35 مليار دولار، أكثر من ثلاثة أضعاف الناتج المحلي الرسمي لمدغشقر.
تقول سوا: "هذه هي المرة الأولى التي أكون فيها وجها لوجه مع المشترين"، مضيفة أنها سمعت أن الغربيين يستعملون الفانيلا في طعامهم. ويساور سوا القلق من التزام صندوق سبل المعيشة بشراء الفانيلا لمدة عشر سنوات. وهي تشجع نساء أخريات في القرية على زراعة النبتة، لكنها تقول إنه التزام كبير حين تزرع شجيرات لا تحمل الثمار - أو تحقق أرباحا - لمدة عامين إلى ثلاثة أعوام. بحلول ذلك الوقت، لا أحد لديه أدنى فكرة عن السعر، على اعتبار أن الفانيلا ليس لديها سوق للعقود الآجلة. وتقول إن منظمات غير حكومية أخرى حضرت وذهبت وسببت خيبة أمل للقرية.
باركين، من شركة مارس، يقول إن العلاقة الوثيقة مع قرى مثل ساهابيفافا، هي نقيض المنطق المجهول الذي يسود في السلع.
وتقر الشركات المعنية بأن هذا النوع من المشاريع - التي تتكرر مع النعناع وجوز الهند والكاكاو - هو مجرد بداية. تعمل "مارس" مع نحو مليون مزارع من صغار الملاك في جميع أنحاء العالم، حيث تتم تغطية جزء منهم ببرامج يكون لديهم بها علاقة وثيقة.
وإلى أن تبذل الشركات جهوداً ذات مغزى لمعرفة ما يكمن في نهاية سلاسل الإمداد لديها، يتفق معظم الناس على أن برامج مثل تلك الموجودة في مدغشقر ستظل استثناء. وسيستمر الزراع الذين يكافحون لإطعام أنفسهم أو لإرسال أطفالهم إلى المدرسة، في تزويد عناصر من الكماليات الصغيرة للحياة في الغرب، مثل الشوكولاتة والآيس كريم والعطور.
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من FINANCIAL TIMES